يؤدي الاغتراب الثقافي إلى انتقال المجتمع وتحوله من طور الثقافة التقليدية إلى طور الثقافة الدخيلة الوافدة، كما يهدد النظم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ويظهر ذلك بوضوح في المؤسسات التربوية.
وتعيش المجتمعات في عالمنا حالة من التصدع في البناء الاجتماعي والنظام الأخلاقي، رغم ازدهارها اقتصاديًّا وعلميًّا وتكنولوجيًّا، وأصبحت تعاني من أزمات حادة في العلاقات الإنسانية بسبب تحكم الفردية والمادية من ناحية، وسيطرة الأيديولوجية الاجتماعية من ناحية أخرى، وتصارع ما بين الأهداف الاجتماعية والثقافية والمعايير والقيم الروحية من ناحية أخرى.
مفهوم الاغتراب الثقافي
ويُمكن التعرّف إلى مفهوم الاغتراب الثقافي من خلال ما ذكره بعض الكتاب المعاصرين، إذ يعد ظاهرة اجتماعية يشعر فيها الإنسان بالوحدة والعزلة والبعد عن الذات والمشاعر والأفعال والأداء.
ومن ناحية مادية ومعنوية بالنسبة للعادات والتقاليد الموروثة فهو يعني هروب الإنسان إلى مجتمع غير مجتمعه، كما يعني فقدان الوحدة مع البيئة الاجتماعية، إذ ليس من الحتمي أن ينشأ عبر مسار حياة المرء وعي بذاته متميز كفرد، فهذا النوع من فهم الذات هو بصورة نسبية ظاهرة تاريخية حديثة وهي ليست بالظاهرة الشاملة.
وهو عدم مواكبة تطورات العصر والتقدم المعرفي، والأخذ من الغرب الجانب المادي فقط، وترك الجانب المعنوي، فيتسبب ذلك في انحراف الثقافة عن منهج الله- تبارك وتعالى- وإنكار القيم الروحية حتى تصبح الثقافة استعمارية، هدفها السيطرة والظلم والابتعاد عن منهج الأنبياء.
أسباب الاغتراب الثقافي في الفكر التربوي المعاصر
وهناك أسباب تؤدي إلى الاغتراب الثقافي في الفكر التربوي المعاصر، منها ما يلي:
- العوامل الاقتصادية: وتتمثل في عدم عدالة التوزيع، وظهور قطاع مجتمعي من الفقراء الذين يكدحون في حياتهم من أجل تحسين أوضاعهم، فيُولّد هذا الأمر شعورًا بالحقد والكراهية والانعزال عن المجتمع.
- العوامل الاجتماعية: إن الصراع الطبقي يؤدي إلى انعدام الشعور بالأمن والأمان والاستقرار، والاستلاب الثقافي وتخلخل المنظومة القيمية في المجتمع.
- العوامل الثقافية: فالتحول من الثقافة التقليدية إلى الثقافة الجديدة، جعل المجتمع يتعامل مع عادات وتقاليد وقيم ولغة وفنون وأساليب حياة في الجانبين المادي وغير المادي للثقافة، وبخاصة في ظل التبعية للأقوى قد يحدث شرخًا ثقافيًّا يجعل الفرد يعيش حالة من الصراع بين الثقافتين الوطنية والوافدة.
أشكال الاغتراب
وتتعدد أشكال الاغتراب الثقافي في الفكر التربوي المعاصر، ومن ذلك:
- العزلة الاجتماعية: وهي الاستعمال الآخر لمصطلح الاغتراب، وهو أكثر ما يستعمل في وصف وتحليل دور المفكر أو المثقف الذي يغلب عليه الشعور بالتمرد، وعدم الاندماج النفسي والفكري.
- بالمقاييس الشعبية، كما تعني تجنب الفرد الاتصال بالآخرين والبُعد عن المشاركة في أي نشاطات اجتماعية نتيجة شعور الفرد بالغربة.
- الاغتراب عن الذات: وهي حالة من الاغتراب لدى الفرد تعبر عن خبراته السابقة تجاه ذاته، وأن قدراته غريبة عنه كأشياء أخرى، كما يشير إلى عدم القدرة على إيجاد الأنشطة المكافئة ذاتيًا، وشعور الأفراد بأنّ ذاته وقدراته تُصبح مُجرّد أشياء منفصلة عنه، وتكون مجرد وسيلة أو أداة.
- فقدان السيطرة “العجز”: وهو توقع الفرد أو اعتقاده بأن سلوكه لن يقدر على تحقيق ما يريد من مكافأة أو تعزيز، وأنه عاجز عن تحديد مسار الأحداث أو النتائج التي قد تنشأ تبعا لهذه الأحداث.
- اغتراب اللامعنى: ويعني شعور الفرد بأنه لا يوجد شيء له قيمة أو معنى في هذه الحياة، نظرًا لخلوها من الأهداف والطموحات ونقص في التواصل بين الحاضر والمستقبل، أي الإدراك بعدم وجود علاقة بين ما يقوم به الفرد من عمل الآن، وبين الأدوار المستقبلية.
- فقدان المعايير: وهو توقع الفرد بدرجة عالية بأن السلوكيات الاجتماعية غير مجدية لتحقيق أهدافه، ما يؤدي لاتخاذ مواقف حياتية هامشية، والانتماء إلى منظومة قيمية خارج ما تعارف عليه المجتمع وما يحكمه من معايير أخلاقية.
- التشيؤ: ويقصد به أن يفقد الإنسان ذاته ووجوده الشرعي الأصيل كما يشير التشيؤ إلى أن الفرد فقد إحساسه بهويته وقد تحول إلى موضوع ومن ثم لم يشعر بأنه مقتلع حيث لا جذور تربطه بالواقع.
مظاهر الاغتراب الثقافي في الفكر التربوي المعاصر
وتعد مشكلة الاغتراب الثقافي ظاهرة بارزة في العصر الحديث بفعل تأثيرات العولمة، ومن أهم مظاهرها:
- المؤسسات التربوية: تشكل المؤسسات التربوية سلاحًا ذا حدين إزاء ظاهرة الاغتراب، فهي أداة لتعميق الاغتراب لدى الطلبة، أو وسيلة لتكييفهم مع أنفسهم ومجتمعاتهم.
- الأسرة: تعد من أبرز الجماعات الإنسانية وأكثرها تأثيرًا في حياة الأفراد والجماعات، إذ تقوم بدور أساسي في تنظيم سلوك الأفراد، والمحافظة على هويتهم وثقافتهم، إلا أن الظروف المستجدة قد تفرض على الأسرة تقليص بعض وظائفها الأساسية التي يجب أن تقوم بها تجاه أطفالها، وذلك لاشتغال الأم وغياب الأب، أو غيابهما معًا، ما يعني تركهم في رعاية المربيات والخدم أو في دور الحضانة، ما يحرمهم العطف والحنان.
- المدرسة: وتساعد أحيانًا على ترسيخ ثقافة الاغتراب عند الطلبة، وذلك من خلال حرمانهم من فرص التعامل والتحاور فيما بينهم، وعزلهم عن البيئة الاجتماعية بإقامة الحواجز بينها وبين المجتمع المحلي، وإقامة الحواجز بين الطلبة أنفسهم من خلال تصنيفهم تبعًا لقدراتهم، والعمل على حشو أدمغة الطلبة بالمعلومات والألفاظ الجوفاء، وسوء العلاقة بين المعلمين والطلاب، ووجود مناخ ضاغط ومغلق داخل المدرسة، وانعدام معنى الكثير من النشاطات والخبرات المدرسية.
- الجامعة: يمكن للجامعة أن تكون مصدرًا للاغتراب من خلال عدم احترام الأساتذة لطلابهم، وعدم مساهمة الطلاب في تصميم برامجهم، وإدراك الطلاب لعدم وجود علاقة قوية بين ما يدرسونه في الجامعة من جهة وبين عملهم المستقبلي. وتتداخل المؤثرات الاجتماعية والثقافية لتكوّن تحديات تواجه الشباب الجامعي وتعترض مسيرة التكيف مع المجتمع العام والجامعة في النسق الاجتماعي والتعليمي، وتهيؤهم للاغتراب بمظاهر متعددة، أهمها:
- تحدي الهوية: ويتمثل في تيار إسلامي من نماذج متعددة: محافظة، ومعتدلة، ومتحررة، وسلفية، ووسطية، واجتهادات شخصية.
- تحدي التخلف الحضاري: ويتمثل بالخضوع للبيئة الطبيعية من حيث اضطرابات العلاقات الإنسانية بين التجمعات السكانية البيئية والدينية، واللغوية، وضعف القوى البشرية الفنية لتشغيل التكنولوجيا المستوردة وصيانتها، وتعدد محاور الولاء للأفراد والجماعات، وعدم وضوح ولائها العميق نحو الوطن.
- تحدي الشورى أو الديمقراطية في ظل الحكم الفردي: لقد برزت الحاجة إلى التربية الديمقراطية في ظل حاجة الأفراد والجماعات إلى الحرية والعدل والتجربة الذاتية وتحمل المسؤولية، وتأكيد أهمية النمو الذاتي الحر عند المتعلمين وإشراكهم في الحوار الخلاق المبدع.
- التحدي الأخلاقي: ويتمثل في تدهور سلوك الأفراد والجامعات والقيادات المختلفة في المهن والنقابات والاتحادات والجمعيات والمؤسسات في القطاعات المختلفة.
- تحدي البحث العلمي: ويتمثل في العديد من الجامعات العربية ومراكز البحوث المنتشرة في أنحاء العالم العربي، إذ إنه رغم تعددها فلا تزال مساهمتها ضعيفة في مجال البحوث والدراسات.
- تحدي العولمة: التي تعني إرادة الهيمنة، أي هي قمع وإقصاء للخصوصي والذاتي معًا، والتي ظهرت بظهور ثورتي المعلومات والاتصالات، والتي أدت بدورها إلى زيادة التقارب بين الشعوب والحضارات، ولذلك أصبح العالم قرية صغيرة.
- المعلم: يعيش المعلم في العالم العربي حالة اغتراب في هويته الثقافية؛ ويشعر المعلم بأن الحياة لا معنى لها، وذلك لشعوره بأن مهنته قد فقدت معناها بعد تدني قيمتها الاجتماعية، وسيطرت القيم المادية على القيم الاجتماعية السائدة.
- الطالب: إن اعتماد الطلبة على نمط وشكل واحد في التدريس دون إتاحة الفرصة لمعرفة قدراتهم واستعداداتهم وميولهم يشكل حالة من الاغتراب، ما يعني تزييف الوعي والقيم والاتجاهات لديهم، وكذلك تزييف قدراتهم على الاختيار واتخاذ القرارات المناسبة التي تهمهم وتهم وطنهم ومجتمعهم.
نتائج وآثار الاغتراب
ويرى العديد من العلماء أن الاغتراب الثقافي يمثل أحد أسباب إدمان المخدرات وعدوانية الشباب وتمردهم على النظام وفقدهم للحس الاجتماعي والهوية والانتماء الوطني، والتبلد والسلبية واللامبالاة وغيرها من الأمراض الاجتماعية والنفسية المدمرة التي تحتاج إلى جهود مخلصة ومتكاملة لعلاجها قبل استفحالها، وتتلخص هذه الآثار في النقاط التالية:
- الهامشية: إذ يؤدي الاغتراب إلى تشكل شخصية هامشية بسبب شعور الفرد بالانفصال عن المجتمع، وأنه بلا هدف وغريب عن بلده أو مجتمعه وعاجز عن اتخاذ القرارات.
- العنف والإرهاب: فقد كشفت الدراسات من خلال نتائجها إلى أن هناك ارتباطًا وثيقًا بين الاغتراب بالعديد من الاضطرابات والمتغيرات غير السوية، مثل: العنف، والإدمان، والانتحار.
- تعاطي المخدرات: فيعد الاغتراب بما يتضمنه من شعور بالعجز والعزلة الاجتماعية واللامعنى واللامعيارية، أحد العوامل الأساسية المسؤولة عن الإقدام على تعاطي المخدرات أو المواد المؤثرة على الأعصاب.
- التطرف: فيلجأ المتطرفون إلى شن حرب مدمرة على البناء السياسي الذي تعيش فيه الأفكار المقيدة لحرياتهم ولا تعطيهم الفرصة للتعبير عن أفكارهم ومشكلاتهم، ولهذا فإن الفكر المتطرف صنوان للاغتراب السياسي والاجتماعي الثقافي.
تصورات مقترحة لمواجهة الاغتراب في الثقافة
وهناك حلول مقترحة لمواجهة مشكلة الاغتراب الثقافي في الفكر التربوي المعاصر، يُمكن أن نشير إلى أبرزها، على النحو التالي:
- أن تضمن المواقف التعليمية، والأنشطة الصفية أو اللاصفية في المؤسسات التعليمية في تكوين اتجاهات إيجابية نحو الهوية الثقافية للمجتمع.
- أن تعمل الجامعات العربية على تخليص الطلبة من ازدواجية المفاهيم الثقافية، وبناء رؤية شاملة تأخذ من الماضي عبره وروائعه من أجل الحاضر لبناء المستقبل.
- إحداث اندماج اجتماعي وسياسي للمجتمع العربي، إذ يحقق هذا الاندماج الوحدة القومية بين الدول العربية، والعدالة الاجتماعية والمشاركة الديمقراطية والتنمية.
- أن يكون للإعلام العربي دورًا في التركيز على القضايا الفكرية والسياسية والدينية والأخلاقية والثقافية والقيمية، وكل ما يتعلق بالتراث.
- على المعلم العربي تأصيل شخصية الفرد من خلال دعم الهوية الثقافية للمجتمع العربي، وإقامة علاقة متوازنة بين أفراد المجتمع أولًا، ومع المجتمعات الخارجية بثقافاتها المتعددة، أي يحقق التوازن بين المحافظة والخصوصية الثقافية والتجديد.
- على الطلبة أن يمتلكوا وسائل الدفاع والرؤية الواضحة لمواجهة التحديات التي تواجه هويتهم الثقافية ومنها الاغتراب، والخروج من أزمتها، لذا يجب إعداد الطالب إعدادًا وجدانيًّا وعقليًّا وجسميًّا واجتماعيًّا؛ لتشكيل شخصية متوازنة تضبطها منهجية في التفكير وعقلانية في التدبير.
- تفعيل دور التعليم في الاهتمام بالهوية الثقافية، وغرسها في قلوب الطلبة منذ المراحل الأولى الأساسية بحيث تصبح سلوكًا معاشًا.
- توحيد المناهج قدر المستطاع فيما يتعلق بالمواد الفكرية؛ لأن ذلك يساعد على توحيد هوية العالم العربي.
- فتح الحوار مع الآخر ونبذ ما يشاع من فكرة صدام الحضارات، ومحاولة إثراء الهوية بما يكتسب من الحضارات الأخرى، والنظر إلى الإنسان كإنسان مع المحافظة على خصوصية الحضارة العربية.
- يجب ربط المناهج الدراسية بمكونات الثقافة، وبخاصة العموميات الثقافية المتعلقة بالمجتمع العربي، التي تعزز عند الطلبة قيم التفاهم والتلاحم والتعاون عند أفراده، ودفاعه عن ماضيه المتمثل في اللغة والدين والتاريخ، ودفاعه عن حاضره المتمثل في منجزاته المادية والمعنوية ووحدة وتكاثف أقطاره أمام التحديات التي تواجه الأمة العربية بجميع المجالات، ودفاعه عن مستقبله.
- تخليص النظم التربوية والتعليمية في بعض البلدان العربية من تبعيتها للغرب فكرًا وممارسة، وإقامتها بدلًا من ذلك على مبدأ المعاصرة والأصالة الذي يقتضي بنائها على أحدث الأسس وأكثرها تطورًا، والإفادة من كل المستجدات والاتجاهات النافعة، والانفتاح على كافة التجارب العالمية وأخذ ما يلائم الوطن والأمة منها.
- الاهتمام بالتربية باعتبارها قادرة على ترسيخ الهوية الثقافية عند الأفراد ومواجهة التحديات التي تواجهها، وبخاصة تحدي الاغتراب.
إن الاغتراب الثقافي يعكس ضآلة علاقات الشخص الاجتماعية من حيث الشعور بالاندماج أو بوجود القيم المشتركة بينه وبين محيطه الاجتماعي، وهو مفهوم يعني حالة شعور الشخص بالغربة أو العزلة بين الأفراد، في بيئة العمل والمجتمع، لذا لا بد من الانتباه إلى هذه المشكلة، ومعرفة مظاهرها وآثارها وكذلك حلولها.
المصادر والمراجع:
- الدكتور خالد أبو شعيرة: دراسة عن “أثر الاغتراب الثقافي في الفكر التربوي المعاصر”.
- محمد برغوثي: التحول الديمقراطي وبناء الدولة في العالم الثالث، ص 30.
- طالب ياسين: الاغتراب تحليل نفسي واجتماعي لأحوال المغتربين، ص 9.
- ريتشارد شاخت: الاغتراب، ص100.
- هيام الملقي: التجارب الروحية بين التأصيل الإسلامي والاغتراب الثقافي، ص45.
- علي شتا: نظرية الاغتراب من منظور علم الاجتماع، ص 35-36.
- عبد اللطيف خليفة: دراسات في سيكولوجية الاغتراب، ص 35