يُعدّ الاعتذار من أقوى الصفات التي تدل على التواضع والتسامح، وأسلوب يُحسِّن صورة صاحبه ويُبعد عنه سوء الظن حين يصدر منه الخطأ؛ لذا وجب علينا المبادرة إلى تقديم الأعذار عند الخطأ وإعذار مَن أخطأ في حقنا والعفو عنه والصفح، وهذا ما يؤكده القرآن الكريم وسنة النبي- صلى الله عليه وسلم-، وهدي صحابته الكرام- رضي الله عنهم- أجمعين.
الاعتذار في الإسلام
وحث الإسلام على تقديم الاعتذار حال ارتكاب الأخطاء، قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران: 135].
والاعتِذَار يكون بعبارات جميلة، وكلمات حسنة رقيقة، قال تعالى: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت: 34-35].
وذكر القرآن الكريم أمثلة كثيرة لاعتذارات الأنبياء والرسل، واستغفارهم وتوبتهم لله تعالى، وهم أرفع الناس مقامًا، وأعلاهم درجة، ترسيخًا لسلوك الاعتِذَار، فقد اعتذر آدم وزوجه حواء- عليهما السلام- لربهما، قال تعالى حكاية عنهما: (قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 23]، فقبل الله اعتذارهما، وتاب عليهما، قال- سبحانه وتعالى-: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة: 37].
واعتذر نبي الله نوح- عليه السلام- لربه، وطلب المغفرة منه تعالى، فجاء على لسانه: (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [هود: 47].
واعتذر نبي الله موسى- عليه السلام- لربه وطلب المغفرة منه تعالى: (قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [القصص: 16].
واعتذر نبي الله يونس- عليه السلام- لربه وهو في بطن الحوت: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء: 87].
وهذا نبي الله موسى- عليه السلام- حين صحب الخضر عليه السلام فنهاه الخضر عن سؤاله عن شيء حتى يحدثه به ويوقفه على حقيقة الأمر، فلما خالف نبي الله موسى عليه السلام الشرط اعتذر عن ذلك فقال: (لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا) [الكهف: 73].
وإخوة يوسف- عليه السلام- حين عرفوه ورأوا ما مَنّ الله به عليه وتذكروا ذنبهم قالوا معتذرين: (تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ) [يوسف: 91]. فما لامهم ولا عنفهم، بل قبل اعتذارهم وأقال عثرتهم ودعا لهم: (قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ۖ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [يوسف: 92].
وأشار القرآن الكريم إلى خبر الصحابي الكفيف عبد الله ابن أم مكتوم؛ إذ جاء إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله: علمني، وكان مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عدد من كفار قريش يدعوهم للإسلام، ويرجو بإسلامهم خيرًا كثيرًا، فطلب منه النبي- صلى الله عليه وسلم- التمهُّل حتى يفرغ من سادة قريش، فألحّ عبد الله، فكره النبي ذلك، فأنزل الله سبحانه عليه: (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى) [عبس: 1-4]، فكان النبي- صلى الله عليه وسلم- كلما لقيه قال له: “مرحبًا بمن عاتبني فيه ربي”.
وأصّل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لثقافة الاعتِذَار بين الناس بما يبعث بينهم المحبة، ويزرع فيهم الثقة والمودة، فقال- صلى الله عليه وسلم-: “كلُّ بني آدمَ خطَّاءٌ، وخيرُ الخطَّائينَ التَّوَّابونَ” (الترمذي وأحمد).
وقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “.. لَا أحَدَ أحَبُّ إلَيْهِ العُذْرُ مِنَ اللَّهِ، ومِنْ أجْلِ ذلكَ بَعَثَ المُبَشِّرِينَ والمُنْذِرِينَ..” (البخاري).
ونهى النبي- صلى الله عليه وسلم- عن الهجر فوق ثلاث ليالٍ، وجعل لِمَن بادر بالاعتِذَار وإلقاء السّلام الفضل والنوال، فقال: “لا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أنْ يَهْجُرَ أخاهُ فَوْقَ ثَلاثِ لَيالٍ، يَلْتَقِيانِ: فيُعْرِضُ هذا ويُعْرِضُ هذا، وخَيْرُهُما الذي يَبْدَأُ بالسَّلامِ” (البخاري ومسلم).
وروى عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “ليسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ المَدْحُ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، مِن أَجْلِ ذلكَ مَدَحَ نَفْسَهُ، وَليسَ أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنَ اللهِ، مِن أَجْلِ ذلكَ حَرَّمَ الفَوَاحِشَ، وَليسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ العُذْرُ مِنَ اللهِ، مِن أَجْلِ ذلكَ أَنْزَلَ الكِتَابَ وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ” (البخاري ومسلم).
وعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “التَّأَنِّي مِنَ اللهِ ، والعَجَلَةُ مِنَ الشيطانِ ، وما أحدٌ أكثرُ مَعَاذِيرَ مِنَ اللهِ (يعني لا يؤاخذ عبيده بما ارتكبوه حتى يعذر إليهم المرة بعد الأخرى) وما من شيءٍ أحبَّ إلى اللهِ مِنَ الحَمْدِ” (البيهقي وأبو يعلي وصححه الألباني)
نماذج تربوية عن الاعتذار
وتركت لنا كتب الحديث والسيرة نماذج عديدة عن الاعتذار وقبوله، منها ما يلي:
روى أهل السّيَر أنّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يسوّي الصفوف في غزوة بدر وكان في يده شيء يسوي به الصفوف، فرأى سواد بن غزية بارزا فطعنه في بطنه وقال له: “استو يا سواد”. فقال سواد رضي الله عنه: يا رسولَ اللهِ أوجَعْتَني وقد بعثك اللهُ بالحقِّ والعدلِ فأقِدْني قال فكشف رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عن بطنِه وقال: “استقِدْ”. فاعتنقَه سواد فقبَّل بطنَه، فقال: “ما حملكَ على هذا يا سوادُ؟”. قال: يا رسولَ اللهِ حضَر ما ترى فأردتُ أن يكون آخرُ العهدِ بك أن يمَسَّ جلدي جلدَك فدعا له رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بخيرٍ.
وعندما فتح الله على نبيه- صلى الله عليه وسلم- مكة خشي الأنصار أن يميل النبي للإقامة في مكة، فقالوا: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته، ورأفة بعشيرته. قال أبو هريرة: وجاء الوحي وكان إذا جاء الوحي لا يخفى علينا، فإذا جاء فليس أحد يرفع طرفه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينقضي الوحي، فلما انقضى الوحي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا معشر الأنصار” قالوا: لبيك يا رسول الله، قال: “قلتم: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته؟” قالوا: قد كان ذاك، قال: “كلا، إني عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، والمحيا محياكم والممات مماتكم”. فأقبلوا إليه يبكون ويقولون: والله، ما قلنا الذي قلنا إلا الضن بالله وبرسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله ورسوله يصدقانكم، ويعذرانكم”.
وتعلم الصحابة والتابعون من بعدهم ثقافة الاعتِذَار، فعن أبي الدّرداء- رضي الله عنه- قال: كانت بين أبي بكر وعمر محاورة، فأغضب أبو بكر عمر، فانصرف عنه مغضبا، فاتّبعه أبو بكر يسأله أن يستغفر له، فلم يفعل حتّى أغلق بابه في وجهه، فأقبل أبو بكر إلى رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- ونحن عنده- فقال رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-: “أمّا صاحبكم فقد غامر” – أي: خاصَمَ -، وندم عمر على ما كان منه، فأقبل حتّى سلّم وجلس إلى النّبيّ- صلّى الله عليه وسلّم- وقصّ على رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- الخبر. قال أبو الدّرداء: وغضب رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-، وجعل أبو بكر يقول: والله يا رسول الله لأنا كنت أظلم. فهذا الصديق يعتذر عما بدر ولا تمنعه مكانته وسابقته من تقديم الاعتذار عند الحاجة.
واعتذر رجل إلى إبراهيم النّخعيّ- رحمه الله تعالى-، فقال له: قد عذرتك غير معتذر، إنّ المعاذير يشوبها الكذب. وقال الحسن بن علي رضي الله عنهما فيما يُروى عنه : لو أن رجلاً شتمني في أذني هذه، واعتذر إليَّ في الأخرى لقبلت عذره.
وقال الأحنف بن قيس- رحمه الله-: “إن اعتذر إليك معتذر تلقه بالبِشْر”. واعتذر رجل إلى الحسن بن سهل من ذنب كان له، فقال له الحسن: تقدّمت لك طاعة، وحدثت لك توبة، وكانت بينهما منك نبوة، ولن تغلب سيّئة حسنتين.
إنّ شجاعة الاعتذار لا يتقنها إلَّا الكِبار، ولا يحافظ عليها إلا الأخيار، ولا يغذِّيها وينمِّيها إلَّا الأبرار، لأنّها صِفة نابعة من قَلبٍ أبيض، لا يَحمل غشًّا، ولا يضمر شرًّا، فمَن عرَف خطأَه واعتذر عنه، فهو كبير في نَظر الكثير، والرُّجوعُ إلى الحقِّ فضيلة؛ وما أجمَلَ أن تكون مسارعًا إلى الخير، رجَّاعًا إلى الحق.
مصادر ومراجع:
- د. أحمد السيد السعيد: فن الاعتذار والمسامحة.
- إسلام ويب: شجاعة الاعتذار.
- أسامة حمودة: الاعتذار .. الخلق الذي نفتقده.
- خليل المقداد: ثقافة الاعتذار أو سَمّها ما شئت.
- طريق الإسلام: الاعتذار رد اعتبار.