أولى الإسلامُ الاستقامةَ اهتمامًا كبيرًا وعناية خاصة، حيث أمر الله- عز وجل- رسوله- صلى الله عليه وسلم-، وأتباعه أن يلتزموا بها عقيدة وشريعة وأخلاقًا، فهي تجمع الدين كله، والحل لجميع المشكلات، فلو أن الأب استقام على شرع الله وربى أولاده تربية إسلامية خالية من المنكرات، فهذا يساعد في إنشاء البيت المسلم، وكذلك الأمر مع الأم، ومع جميع الناس.
والمستقيم له حظ في الدنيا لا يناله غيره من الناس، فليس كل مَن أنعم الله عليه كان مستقيمًا، فيمكن أن يكون المتاع في الدنيا ليس دليل رضا من الله- عز وجل-؛ وإنما ابتلاء منه سبحانه للذين انحرفوا عن دين الله، فيفتح الله عليهم في الدنيا ليرهقهم بها في الآخرة.
مفهوم الاستقامة ومنزلتها
وتُعرف الاستقامة في اللغة بأنها القصد، والإصابة، والاستواء، والنظام، والاعتدال، والرشد، والزم، واتفق كثير من أهل اللغة- ومن خلال ذكر جذرها حتى الألفاظ القريبة- على أنها ترجع إلى معنى الاعتدال والتوسط، والسلامة من غضب الله تعالى، وهي ضد الطغيان، وهو مجاوزة الحد في كل شيء.
وتعني في الاصطلاح، بأنها سلوك الصراط المستقيم، وهو الدين القويم من غير تعويج عنه يمنة ولا يسرة، ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات كلها كذلك. وعرفها الجرجاني بأنها: الوفاء بالعهود كلها، وملازمة الصراط المستقيم برعاية حد التوسط في كل الأمور، من الطعام والشراب واللباس، وفي كل أمر ديني ودنيوي، فذلك هو الصراط المستقيم، كالصراط المستقيم في الآخرة.
وأمر الله عباده بالاستقامة فقال سبحانه: (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ )[التوبة:٧]. ورغب الله فيها، بقوله: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) [الجن:١٦-١٧].
وثبت عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أحاديث نبوية شريفة عن الاسْتِقَامة والطريق إليها وما يعين عليها، ومنها ما يأتي: عن سفيان بن عبد الله الثقفي- رضي الله عنه- قال: “يا رَسولَ اللهِ، قُلْ لي في الإسْلامِ قَوْلًا لا أسْأَلُ عنْه أحَدًا بَعْدَكَ، وفي حَديثِ أبِي أُسامَةَ “غَيْرَكَ”، قالَ: قُلْ: آمَنْتُ باللَّهِ، ثم اسْتَقِمْ” (مسلم).
وقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “لَنْ يُنَجِّيَ أحَدًا مِنكُم عَمَلُهُ، قالوا: ولا أنْتَ يا رَسولَ اللَّهِ؟ قالَ: ولا أنا، إلَّا أنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ برَحْمَةٍ، سَدِّدُوا وقارِبُوا، واغْدُوا ورُوحُوا، وشَيءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ، والقَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا” (البخاري).
أسباب الاستقامة
وتتعدد سبل وأسباب الاستقامة على دين الله- سبحانه وتعالى- ويمكن تلخيصها في النقاط الآتية:
- الإيمان بالله تعالى والإخلاص له: قال تعالى: (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الحج:٥٣-٥٤].
- الاعتصام بالله تعالى: قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [آل عمران:١٠٠-١٠١].
- العبادة والدوام والثبات عليها: قال تعالى: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام:١٦٠-١٦١]. وفي ذلك يقول النبي- صلى الله عليه وسلم-: “إذا أحسن أحدكم إسلامه؛ فكل حسنةٍ يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف، وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها” (البخاري).
- التمسك بالقرآن: قال تعالى: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا) [الجن:١-٢].
- اتباع رضوان الله تعالى: قال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )[المائدة:١٥-١٦].
- العدل: قال تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [النحل:٧٥-٧٦].
- الدعاء: قال تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ) [آل عمران:١٩٠-١٩٤].
- العلم: قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) [فاطر:٢٨].
- التوبة والاستغفار: بالإنابة والرجوع إلى الله تعالى والندم على الذنوب، والعزم على العمل الصالح طاعةً لله تعالى، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) [النساء:٦٦-٦٨].
- اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم: قال تعالى: (لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور:٦٣].
- الشكر لله تعالى: فلا شك أن الشكر لله تعالى من أنجع الطرق الموصلة إلى الاستِقَامة الحقة، فاستقامة جدنا الذي نتشرف بالانتساب إليه سيدنا إبراهيم- عليه السلام-، واصطفاؤه وتقريبه من المنزلة الرفيعة من الهداية، جاء كل ذلك لأنه التزم القنوت والعبادة، وهو إمام جامع لكل الفضائل، ويتجلى ذلك في قوله تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [النحل:١٢٠-١٢١].
فوائد
وفي حال التزم العبد طريق الاستقامة ظهرت عليه وعلى المجتمع الذي يعيش فيه آثار وثمراتٍ، نتناول بعضها في هذه النقاط:
- زيادة النشاط في الدعوة إلى الله تعالى: وهذا يكون من خلال طمأنة الله تعالى لرسوله محمد- صلى الله عليه وسلم-، عندما كذبه قومه، أنك يا محمد تدعو إلى الاستقامة الحقة، لهذا الدين القويم، ويفسر ذلك قوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[المؤمنون:٧٣].
- التمسك بالمنهج المستقيم: ويدل على هذا قوله تعالى: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الزخرف:٤٣].
- لا خوفٌ على المستقيمين ولا حزن في الآخرة: ويدل على هذا قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الأحقاف:١٣].
- دخول الجنة، والخلود فيها: ويدل على هذا قوله تعالى: (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأحقاف:١٤].
- المستقيمون في ضيافة الرحمن يوم القيامة: ويدل على هذا قوله تعالى: (نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) [فصلت:٣٢].
- تنزل الملائكة على المستقيمين بالبشريات: يقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) [فصلت:٣٠].
- ولاية الملائكة للمستقيمين: يدل على هذا قوله تعالى: (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ) [فصلت:٣١].
- الرزق الكثير لمن التزم الاستقامة: ويدل على هذا قوله تعالى: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) [الجن:١٦].
من أجلِّ نعم الله- عز وجل- على عبده أن يوفقه إلى طريق الاستقامة على دينه؛ لأنّ مَن نال ذلك فقد نال كل خير، وفاز بسعادة الدارين، وكان من حزب الله المفلحين، ومن أوليائه الصالحين.
مصادر ومراجع:
- فهد الشويرخ: الاستقامة على دين الله.
- ابن قيم: مدارج السالكين 2/104.
- الأزهري: تهذيب اللغة 2/126.
- الجوهري: الصحاح 5/2017.
- ابن فارس: مقاييس اللغة 3/5.
- ابن رجب: جامع العلوم والحكم، ص 193.
- الجرجاني: التعريفات، ص19.