الاختلاف سعة ورحمة
تخيلّ معيَ أنكَ استيقظتَ في يومٍ من الأيامِ
فإذا بالعالَمِ كلِّه أمامَكَ شكلٌ واحدٌ
البشرُ متشابهون في الشكلِ والهيئةِ
الجميعُ يبتسمُ نفسَ الابتسامةِ ..
أو يحزنُ بنفسِ شكلِ الحُزنِ
وصارت الألوانُ كلُها لونًا واحدًا.. أبيضًا أو أصفرًا أو أيًا كان
الشوارعُ كلُها واحدةٌ
والاتجاهُ واحدٌ ..
واللغةُ واحدةٌ كلُ شئٍ متشابهٌ
بشكلٍ مطلقٍ! قل لي هل ستكونُ الحياةُ جيدةٌ؟
هل ستكون الحياةُ سعيدةٌ؟
هل هذه بالأساسِ اسمها حياة؟
بالطبع لا
لما خلق الله سيدُنا آدمَ “أبو البشر” ونفخ فيه من روحه
وجاء من نسله أناسٌ مختلفون في أشكالهم وألوانهم، وفي صفاتهم وطباعهم وأفكارهم
كان ذلك لحكمةٍ عظيمةٍ يعلمها سبحانه وتعالى
حيث قال في كتابه: “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ” [هود:118]
وذلك يثبتُ لنا مدى قدرتِه سبحانَه وتعالى في أن يجعل بين الناسِ طباعًا مختلفة ، وأفكارًا مختلفة ، وصفاتٍ مختلفة
وقال ربُّ العزةِ في سورة المائدة: “وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ” [المائدة:48]
الاختلافُ في عهد النبي ﷺ وصحابتِه
حرِصَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على تربية الصحابةِ رضوانُ الله عليهم على التعايشِ مع الاختلاف، وعلى آدابِه وكيفيتِه
ففي حديث جندب بن عبد الله أن النبيَّ صلى الله عليه وسلمَ قال
“اقرءوا القرآنَ ما ائتلفت عليه قلوبُكم فإذا اختلفتم فقوموا عنه”
وهنا يحث النبي صلى الله عليه وسلم صحابتَه وأمتَه على الألفةِ، ويحذرهم من الفرقةِ في الدين، أو من أيِّ أمرٍ قد يتسبب في فتنةٍ ونزاعٍ في الأمة،
ويحثهم كذلك على ردِّ الأمورِ لله ورسوله وأهل العلم والتفسير
وفي حديثِ أبي موسى الأشعرِي -رضي الله عنه-، والذي رواهُ عن النبيِّ ﷺ أنه قال:
“إنَّ اللهَ تعالى خلقَ آدمَ من قبضةٍ قبضها من جميعِ الأرضِ فجاء بنو آدم على قدْر الأرضِ منهمُ الأحمرُ والأسودُ والأبيضُ والأصفرُ وبيْن ذلك، والسهلُ والحَزَن والخبيثُ والطيب”
وهنا يرسخ المصطفى صلى الله عليه وسلم في نفوسِ أصحابِه حقيقةَ أن الاختلافَ سنةٌ كونيةٌ ثابتة
آدابُ الاختلاف
الاختلافُ ليسَ شيئًا مذمومًا في ذاتِه، وإنما سوءُ الأدبِ مع المختلَف معه هو الشيءُ السيء
ولذلك فإن للاختلافِ آدابًا يجبُ على الفردِ والأمةِ إدراكُها
فمن آدابِ الاختلافِ الأولى: إخلاصُ النية
حيثُ إن المقصدَ الصحيحَ من أيِّ اختلافٍ هو الإفادةُ والاستفادةُ ومحاولةُ السيرِ نحوَ الأصحِّ والأفضل
وعلى الطرفيْن المختلفيْن أن يدركا أنهما ليسا في معركةٍ يجبُ على أحدِهما الانتصارُ فيها على الآخرِ…
بل الأمرُ كله في الوصولِ إلى حقائقِ الأمورِ وأصلِها وأصحِّها …
ومن آدابِ الاختلافِ أيضًا التواضعُ في عرضِ وجهةِ النظرِ والنزولِ على الحق
وعدم استئثارِ طرفٍ بالرأيِ وتنفيذِه لمجردِ امتلاكِه القوةَ أو السلطةَ ..
ومن آدابِ الاختلافِ الالتزامُ بآدابِ الحوارِ كالإنصاتِ وعدمِ قطعِ الحوار .
والحفاظُ على صلةِ الأخوةِ التي جمعَ الله بها بين الناس
فقد أمر الله سبحانه وتعالى نبيه الكريم باللينِ في تعاملِه مع الصحابةِ فقال:
“وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ”
وهنا إشارةٌ إلى أن نتصفَ بالرفق مع الآخرين في تعاملاتنا واختلافاتنا
وعدمِ الغمزِ واللمزِ وسوءِ الظن، والسقوطِ في خطأ شيطنةِ وتشويهِ الآخر
وفي نهايةِ كلِّ اختلافٍ يجبُ على الجميعِ أن يتعاونوا فيما تمَّ الاتفاقُ عليه، ويعذُر بعضهم بعضًا فيما تم الاختلافُ فيه.
اختلاف مذموم الجميعُ يختلف .. الجميعُ له وجهةَ نظرٍ يقتنعُ بها ويدافعُ عنها
لكن إذا كان حديثُنا واختلافُنا لإثباتِ ذاتِنا بالقوةِ فهذا اختلافٌ مذموم
ومن الأسبابِ التي تؤدي إلى الخلافِ المذموم:
جهلُ الأطرافِ بمراتبِ الخلافِ وأنواعِه، وما يُقبلُ منه وما لا يقبل
وجهلُ الأدلةِ وحيثياتِ المسألةِ المختلَف عليه
و قلةُ العلمِ وضعفُ الإدراك
و التسرعُ والاندفاعُ
والتعصبُ والتلفظُ بألفاظٍ غيرِ لائقةٍ وتجريحُ الآخر
وحبُّ الذاتِ واتباعُ الأهواءِ الشخصية
كل هذا يُحيلُ الاختلافَ إلى خلافٍ
وهو الأمرُ المذمومُ الذي لا فائدةَ منه ولا طائلَ من ورائِه
ولذلك يجبُ علينا أن ننشرَ ثقافةَ الحوارِ المبنيةِ على التسليمِ بحقِّ الاختلافِ والتنوع
وأن نشجعَ النشءَ على التعايشِ مع الاختلافِ بين الأجيالِ المتعاقبة
وتشجيعِ الجميعِ مهما كان مركزُهم على التعايشِ مع الآخرِ واحترامه
على أن يتم ذلك كلُّه في إطارِ الأدبِ والاحترامِ المتبادل .
آثارُ الاختلافِ المذموم على الأمة .