وجوه الإنفاق في سبيل الله كثيرة، تشمل إغاثة الناس، وبناء المساجد، وسقيا الماء، وإفطار الصائمين، والزكاة، وكفالة الأيتام، وبناء المدارس، والجهاد في سبيل الله، وغيرها الكثير من أوجه الخير التي تعد صدقة جارية يستفيد منها المتصدّق في حياته وبعد موته.
مفهوم الإنفاق في الإسلام
وفي اللغة يعرف الإنفاق بأنه مصدر للفعل الرباعي أنفق، فيقال: أنفق ينفق إنفاقًا، فهو منفق، والمفعول منفق (للمتعدي)، أنفق مالًا: صرفه وأنفده، وهو بذل المال ونحوه في وجه من وجوه الخير، ويأتي بمعنى الفقر والإملاق؛ لأن الإنفاق سبب للافتقار من الشيء المنفق. ومنه (النفقة): وهي اسم لما ينفق من الدراهم والزاد ونحوهما، وما يفرض للزوجة على زوجها من مال للطعام والكساء والسكنى والحضانة ونحوها، والجمع: نفقات، ونفاق.
ولا يوجد فرق كبير بين المعنيين اللغوي والاصطلاحي للإنفاق، فقد عرّفه الجرجاني بقوله: “هو صرف المال في الحاجة”. واختار الراغب: أنه يكون في المال وغيره. فهو على هذا بذل المال ونحوه في وجوه الخير، ويطلق أيضًا على ما ينفقه الرجل على نفسه وعلى عياله.
ويشمل كل ما أمر الله به في دينه من الإنْفَاق، سواء كان إنفاقًا في حج أو عمرة، أو كان جهادًا بالنفس، أو تجهيزًا للغير، أو كان إنفاقًا في صلة الرحم، أو في الصدقات، أو على العيال، أو في الزكوات والكفارات، أو عمارة السبيل وغير ذلك. والتعريف المختار للإنفاق أنه: إخراج المال من ملكية صاحبه، في سبيل تحصيل منفعة صحيحة، عينية أو معنوية، له أو لغيره.
وبين الله ثواب المُنْفقين في سبيله، فقال تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة: 261، 262].
وقال الله- تبارك وتعالى-: (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) [الحديد: 7].
وحذر الله- عز وجل- مَن يكنز الذّهب والفضة ولا ينفقها في سبيل الله، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ )[التوبة: 34-35].
وروى الشيخان عن أبي هريرة- رضي الله عنه-، أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “ما من يوم يصبح العباد فيه، إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعْطِ منفقًا خَلَفًا، ويقول الآخر: اللهم أعْطِ ممسكًا تَلَفًا” (البخاري ومسلم).
وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: “قال الله: أنْفِقْ يا بن آدم، أُنْفِقْ عليك” (البخاري ومسلم). قوله: “أَنْفِقْ أُنْفِقْ عليك”؛ قال الإمام النووي- رحمه الله-: “هو معنى قوله- عز وجل-: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) [سبأ: 39]، فيتضمّن الحث على الإنْفَاق في وجوه الخير، والتبشير بالخلف من فضل الله تعالى.
وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “مَن تصدَّق بعدلِ تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، وإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يُربيها لصاحبه، كما يُربي أحدكم فَلُوَّه حتى تكون مثل الجبل” (البخاري ومسلم).
آداب الإنفاق
وحتى يؤدي الإنفاق إلى ثمار عظيمة وفوائد جليلة لا بد وأن يكون المنفق مستحضرًا آدابًا مهمة فيه، منها:
- الإخلاص: ويعني تجريد العبودية لله تعالى لا يشوبها شائبة رياء أو سمعة أو غيرهما، فإذا أنفق على نفسه وأسرته ينفق شاكرًا لله تعالى على ما أعطاه من هذه المال، حامدًا له على هذه النعمة، وإذا أنفق على الفقراء والمساكين، أو مشاريع الخير وأعمال البر يريد الأجر والثواب، يقول النبي- صلى الله عليه وسلم: “إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى” (البخاري).
- عدم المن والأذى: والمن هو التحدث بما أعطى حتى يبلغ ذلك المعطي فيؤذيه. يقول الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) [البقرة: 264].
- الإنْفَاق من المال الطيب: لأن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبًا، فقد أمر سبحانه بالإنفاق من الطيب المحبوب للنفس، فأحب لأخيك ما تحب لنفسك، يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) [البقرة: 267].
- الاعتدال في الإنْفَاق: لأن المال أمانة عند صاحبه، فهو مال الله تعالى، رزقه هذا الإنسان، ليتعامل به وفق منهج الله تعالى، فلا يتعالى فيه فيبذر ويسرف ويتجاوز القصد والاعتدال، ولا يقتر فيشح ويبخل ويمسك، قال تعالى مادحًا المؤمنين الذين يسلكون هذا المنهج: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [الفرقان: 67].
- أن تطيب نفس المنفق بالنفقة: قال تعالى: (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)[البقرة: 265].
ثمار ونتائج
وثمار الإنفاق التي يجنيها المتصدق في الدنيا والآخرة عظيمة وجليلة، منها ما يلي:
- تهذيب النفس وتطهيرها من الشح: وإصلاح حال الفرد، واستقامة المجتمع، وتليين وتذليل ومعالجة القلوب الصلدة القاسية، والجود والسخاء بإذن الله تعالى يقلب البغضاء محبة، والعداوة ودًا، وفيه مواساة للفقراء والمساكين والمعوزين عمومًا. قال الله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[التوبة: 103].
- حسن التكافل الاجتماعي: فقد عرف أن من أعظم وسائل تقوية التكافل الاجتماعي في الإسلام البذل والإنْفَاق؛ يقول الله تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)[البقرة: 274].
- سعة الرزق: فمن النصوص الدالة على ذلك قوله تعالى: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)[سبأ: 39].
- الحصول على محبة الله ورحمته ورضاه: فمن فوائد الصدقة وآثارها الحميدة أنها طريق للظفر بمحبة الله ورحمته ورضاه، ففي الصدقة إحسان ورحمة، وتفضل وشفقة؛ ومما يدل على أن التصدق والإنفاق في مرضاة الله من دواعي حبه- عز وجل- للعبد: قوله تعالى: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[البقرة: 195].
- مغفرة الذنوب: وجعل الله الصدقة سببًا لغفران المعاصي، وإذهاب السيئات، والتجاوز عن الهفوات، دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة، ومنها: قوله تعالى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ)[هود: 114].
- الحشر تحت ظل الصدقة: فالناس إذا حشروا يوم القيامة واشتد الكرب فإن المتصدقين يتفيئون في ظل صدقاتهم، وقد ثبت ذلك في أحاديث كثيرة، ومنها: قوله- صلى الله عليه وسلم-: “كل امرئ في ظل صدقته يوم القيامة حتى يفصل بين الناس) أو قال: (حتى يحكم بين الناس) قال يزيد -راوي الحديث-: وكان أبو الخير لا يخطئه يومٌ إلا تصدق فيه بشيء، ولو كعكة أو بصلة. (أحمد وابن حبان والحاكم وصححه الألباني).
- دخول جنات النعيم: ومن فوائد الصدقة، وآثارها الحميدة أنها سبب في دخول الجنة، وأصل ذلك بيان الرب سبحانه أن الجنة هي دار المحسنين والمحسنات من عباده وإمائه، فقال تعالى: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)[المرسلات: 43-44].
إنّ الإنفاق في سبيل الله من أعظم الأعمال التي تُقرّب العبد من ربه- سبحانه وتعالى- وتُنيلُهُ الفضل والثواب العظيم، فينبغي على المسلم الحرص عليه، بشرط أن يكون خالصًا لوجه الله تعالى، دون رياء أو سمعة، وأن يكون من مالٍ حلال على من يستحق دون منّ أو أذى.
مصادر ومراجع:
- السمين الحلبي: عمدة الحفاظ، ص 208.
- أحمد مختار عمر: معجم اللغة العربية المعاصرة 3/2260.
- المعجم الوسيط 2/806.
- الجرجاني: التعريفات 1/57.
- الراغب الأصفهاني: المفردات، ص 819.
- حسين شحاته: الإنفاق .. ضوابط شرعية.
- النووي: شرح صحيح مسلم 4/87.