حثَّت الشريعة الإسلامية الغراء على الإنصاف والعدل وإعطاء كل ذي حقٍّ حقَّه، والتعامل مع الآخرين بِعدلٍ ومساواةٍ، دون ظلمٍ أو تحيزٍ، وتلك صفة لا يتحلى بها إلا كل ذي قلب تقي، وفؤاد نقي، وعلم راسخ، وإخلاص وافر، وهو مع الخصوم أعلى مرتبة.
وأحوال البشر غايةٌ في التَّعقيد في أمزجتهم وأهوائهم، والمنصف هو الذي يدرك أنَّ الاعتمال الذي يعتمل في النَّفس هو الذي ينتج الحكم على الأشخاص بالأشياء، فإذا كان الإنسان عنده عدلٌ، وإذا كان يتحرَّى أقواله وأفعاله؛ أنصف، وأمَّا إذا كان هذا الإنسان مع هواه، ومع شهوته، حاد عن العدل.
مفهوم الإنصاف وأنواعه
وفي اللغة يأتي الإنصاف من مادة (نصف) النون والصاد والفاء أصلان صحيحان، أحدهما: يدل على شطر الشيء، والآخر على جنس من الخدمة والاستعمال، فالأول نصف الشيء ونصيفه: شطره، والإنْصَاف في المعاملة كأنه الرضا بالنصف، وأنصف الرجل أي: عدل.
ويقال أنصف ينصف إنصافًا فهو منصف، وأنصفت الرجل إنصافًا إذا أعطيته الحق، وتناصف القوم إذا تعاطوا الحق بينهم. وأنصف المظلوم من الظالم، أي استوفى له حقه منه. ويقال: أنصف فلانًا من فلان استوفى له حقه منه، و(ناصفه) الشيء قاسمه نصفه.
وفي الاصطلاح، يعني العدل، وعرّفه ابن الأعرابي بأنه: أن تعطيه من الحق كالذي تستحقه لنفسك، وعرّفه المناوي بأن لا يأخذ من صاحبه من المنافع إلا مثل ما يعطيه، ولا ينيله من المضار إلا كما ينيله، وقيل: هو استيفاء الحقوق لأربابها، واستخراجها بالأيدي العادلة، والسياسات الفاضلة، وهو والعدل توأمان، نتيجتهما علو الهمة، وبراءة الذمة، باكتساب الفضائل، واجتناب الرذائل.
والإِنْصَاف قيمة عليا من قيم الإسلام، وخلق من أخلاقه الرئيسة السامية، وكمفهوم شامل واجب مطلقًا مع كل أحد، والمسلم مأمورٌ بإعطاء كل أحد ما يستحقه دون حيف أو ظلم، ويدخل فيه خمسة أنواع:
- إنصاف العبد ربَه: فمن أعظم الحقوق على العبد على الإطلاق حق الخالق سبحانه وتعالى، بأن يوفيه حقه- قدر استطاعته- دون بخس أو نقص.
- إنصاف النبي صلى الله عليه وسلم: فمن أعظم نعم الله على هذه الأمة إظهار محمد- صلى الله عليه وسلم لهم- وبعثته، وإرساله إليهم. لذا كان من أعظم أنواع الإِنْصَاف إنصاف المسلم رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وإنصافه يكون بالإيمان به، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر. قال تعالى: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [الأعراف:158].
- إنصاف العبد نفسه من نفسه: ومما يدل على ذلك قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) [النساء:135].
- إنصاف العباد: ومما يدل على ذلك قوله تعالى: . (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) [المطففين:1-3].
- إنصاف المخالفين: ومو من الأنواع التي حث عليها القرآن الكريم، قال تعالى: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران: 75].
آداب الإنصاف
والتحلي بصفة الإنصاف يتطلب الالتزام ببعض السلوك والآداب على رأسها:
- التّجرّد وتحرّي القصد الحسن: فهناك قصد حبّ الظّهور، وقصد التّشفّي والانتقام، وقصد الانتصار للنّفس أو للطّائفة الّتي ينتمي إليها النّاقد، لذا لا بد من أن يكون الهدف إظهار الحق، والرغبة في الوصول إليه. فهذا نبي الله شعيب- عليه السلام- بعد المحاورة الطويلة لقومه، بين مقصوده من حواره، ودعوته لهم، حيث أخبر الله عنه أنه قال: (‘قَالَ يَٰقَوْمِ أَرَءَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍۢ مِّن رَّبِّى وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَآ أَنْهَىٰكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا ٱلْإِصْلَٰحَ مَا ٱسْتَطَعْتُ) [هود – 88].
- النقد للرأي وليس لصاحبه: فالنّقد الموضوعيّ هو الّذي يتّجه إلى الموضوع ذاته وليس إلى صاحبه. وكان الرّسول- صلّى اللّه عليه وسلّم- إذا حدث خطأ من أحد أصحابه أو بعضهم. لا يسمّيهم غالبا وإنّما يقول: “ما بال أقوام”، “ما بال رجال”.
- الامتناع عن المجادلة: فالنبي- صلّى اللّه عليه وسلّم- حذّر من الجدل المفضي إلى الخصومة فقال: “إنّ أبغض الرّجال إلى اللّه الألدّ الخصم” (البخاري ومسلم).
- حمل كلام المخالف على ظاهره: فقد علّمنا ذلك رسولنا الكريم- صلّى اللّه عليه وسلّم- حينما قتل أسامة بن زيد رجلًا مشركًا بعد أن قال: لا إله إلّا اللّه، فلمّا علم- صلّى اللّه عليه وسلّم- أنكر ذلك عليه، فقال أسامة: إنّما قالها متعوّذا. فقال- صلّى اللّه عليه وسلّم-: “هلّا شققت عن قلبه” (البخاري ومسلم).
- أهمية التبين والتثبت قبل إصدار الأحكام: وذلك امتثالا لقول اللّه تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) [الحجرات: 6].
- إحسان الظن بالمسلمين: فالواجب على المسلم أن يحسن الظّنّ بكلام أخيه المسلم، وأن يحمل العبارة المحتملة محملا حسنا، قال سعيد بن المسيّب: كتب إليّ بعض إخواني من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: “أن ضع أمر أخيك على أحسنه ما لم يأتك ما يغلبك، ولا تظنّنّ بكلمة خرجت من امرئ مسلم شرّا وأنت تجد لها في الخير محملا”.
- عدم نشر سيّئات المخالف: فقد ذكّر الرّسول- صلّى اللّه عليه وسلّم- عمر بحسنات حاطب فقال: “وما يدريك يا عمر لعلّ اللّه قد اطّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم” (البخاري).
فوائد
وفوائد الإنصاف والعدل جليلة، وآثاره عظيمة، وثماره كثيرة، على مستوى الفرد، والمجتمع، ومنها:
- موصل للتقوى: التي هي مطلب كل مسلم، ومرغوب كل مؤمن، والتي أعد الله تعالى لأصحابها جنة عرضها السماوات والأرض. قال تعالى: (ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ) [المائدة:8].
- سبب في محبة الله للعبد: التي هي أعظم العطايا، وأحب المطالب للمسلم، قال تعالى: (وَأَقْسِطُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ) [الحجرات:9] والقسط من معاني الإِنْصَاف. قال الرازي: والمعنى: أي: واعدلوا، إن الله يحب العادلين، ومحبته لهم تستلزم مجازاتهم بأحسن الجزاء.
- أمان للفرد من الضلال: واتباع الهوى، والميل عن الحق. وقد قال تعالى لنبيه داود: (يَٰدَاوُۥدُ إِنَّا جَعَلْنَٰكَ خَلِيفَةً فِى ٱلْأَرْضِ فَٱحْكُم بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌۢ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ ٱلْحِسَابِ) [ص:26].
- سبب في صلاح العمل ومغفرة الذنوب: قال تعالى: (‘يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَٰلَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) [الأحزاب:70-71].
- الأمن من العذاب والهلاك: فمجتمعٌ يسوده الإِنْصاف، فينصف الناس بعضهم بعضًا، ينصف الرجل المرأة، والمرأة الرجل، وينصف الحاكم الرعية، والرعية تنصف الراعي، وهكذا، قال تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ بِظُلْمٍۢ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود:117].
الإنصاف صفةٌ أساسيةٌ لبناء مجتمعٍ عادلٍ ومزدهرٍ، فهو ينشر العدل والمساواة في المجتمع، ويعزز الشعور بالأمان والرضا، ويُسهم في حلّ النزاعات، ويُقوّي العلاقات بين الأفراد، ويُعلي من قيم المجتمع.
مصادر ومراجع:
- ابن فارس: مقاييس اللغة 5/431.
- ابن منظور: لسان العرب 9/332.
- الفيومي: المصباح المنير 2/608.
- أحمد مختار: معجم اللغة العربية المعاصرة 3/2222.
- الزبيدي: تاج العروس 24/413.
- السعدي: تيسير الكريم الرحمن، ص 224.
- ابن عاشور: التحرير والتنوير 12/145.
- محمد موسى: الإنصاف.