شملت آيات سورة الحجرات مجموعة من الآداب المتنوعة التي ارتبطت بآداب المسلمين مع الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، كما تناولت مجموعة من الآداب التي بها أرشدنا الله سبحانه وتعالى إلى كيفية الحفاظ على وحدة هذه الأمة، والألفة والتراحم بين أبنائها، وكيفية إبعاد نزغ الشيطان وحظوظ النفس عن العلاقة بين أفراد الأمة بعضهم بعضًا، وطوائفهم كذلك بعضهم بعضًا. وكان من أهم تلك الآداب التي حثنا الله سبحانه وتعالى على الالتزام بها طريقًا لتعزيز وحدة الأمة وتقوية رابطتها وتصفيه نفوس أفرادها تجاه إخوانهم هو الإصلاح بين الناس.
في السطور القادمة، سنقترب من تفسير آيات الحجرات التي تتحدث عن هذا الأدب العظيم، ثم سننطلق من الحجرات مستأنسين بباقي آيات القرآن وأحاديث النبي- صلى الله عليه وسلم- وسيرته وأصحابه- رضوان الله عليهم- لنستنتج منها تعريف هذا الأدب العظيم وأهميته وفضله، والشروط اللازم توفرها فيمن يتصدر لهذه المهمة، وكذلك مجموعة من الوسائل والآداب التي تعينه على تمامها والإحسان فيها.
آيات الحجرات عن الإصلاح بين الناس
قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ . إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الحجرات: 9-10).
سبب النزول: روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “قِيلَ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: لو أتَيْتَ عَبْدَ اللَّهِ بنَ أُبَيٍّ، فَانْطَلَقَ إلَيْهِ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ورَكِبَ حِمَارًا، فَانْطَلَقَ المُسْلِمُونَ يَمْشُونَ معهُ -وهي أرْضٌ سَبِخَةٌ- فَلَمَّا أتَاهُ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقَالَ: إلَيْكَ عَنِّي، واللَّهِ لقَدْ آذَانِي نَتْنُ حِمَارِكَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ منهمْ: واللَّهِ لَحِمَارُ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أطْيَبُ رِيحًا مِنْكَ، فَغَضِبَ لِعَبْدِ اللَّهِ رَجُلٌ مِن قَوْمِهِ، فَشَتَمَهُ، فَغَضِبَ لِكُلِّ واحِدٍ منهما أصْحَابُهُ، فَكانَ بيْنَهُما ضَرْبٌ بالجَرِيدِ والأيْدِي والنِّعَالِ، فَبَلَغَنَا أنَّهَا أُنْزِلَتْ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9].
التفسير التحليلي
“وَإِنْ طَائِفَتَانِ”: يعني فرقتان من المؤمنين.
“اقْتَتَلُوا”: أي حصل بينهم ما يسبب القتال، أو الاختلاف المؤدي إلى الاقتتال. وهذا يشمل أي خلاف يخشى أن يؤدي إلى القتال؛ كالمقاطعة، والفجور في الخصومة، والتباغض، والسباب. فعلى بقية المؤمنين أن يسعوا في الإصلاح بينهم.
ولهذا قال: “فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا”. والصلح هو السعي في المؤاخاة، وإزالة ما بينهما من العداوة، والحرص على تأليف القلوب، وجمعها، وإزالة الشحناء والقطيعة.
“فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي”: إذا رفضت إحدى الطائفتين الصلح وقالت: “لن نقبل، وسنقاتل”، فعندها ينبغي قتال الطائفة التي تبغي حتى ترجع إلى الحق.
“فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي”: البغي هنا يعني التعدي ومجاوزة الحد. فتلك الطائفة هي التي تُقاتَل من قبل بقية المؤمنين حتى تعود إلى أمر الله.
“حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ”: أي حتى ترجع عن غيها وتمتنع عن القتال.
فَإِنْ فَاءَتْ: أي رجعت عن الاعتداء، فعندئذٍ يُصلح بينهما بالعدل.
“فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ”: لا تميلوا إلى طرف على حساب الآخر، بل أنصفوا بينهما.
“وَأَقْسِطُوا”: يعني قوموا بالقسط والعدل.
“إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ”: أي أن الله يحب العادلين الذين يحرصون على إرساء الحق والمساواة.
“فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ”: الله يأمر بالإصلاح بين المتخاصمين، ويسميهما “أخوين”، ليبين مدى قربهم وارتباطهم ببعضهم البعض رغم الاختلاف.
“وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ”: اتقوا الله في كل تعاملاتكم، وفي الإصلاح، لعل الله يرحمكم ويجمع بين قلوبكم.
مفهوم الإصلاح بين الناس وأهميته
الإصلاح بين الناس هو السعي والتوسط بين المتخاصمين لأجل رفع الخصومة والاختلاف، عن طريق التراضي والمسالمة، تجنبًا لحدوث البغضاء والتشاحن وإيراث الضغائن.
والإصلاح بين الناس سنة جليلة حثنا عليها النبي صلى الله عليه وسلم، وهو عبادة عظيمة يحبها الله سبحانه وتعالى. المُصلح هو من يبذل جهده وماله وجاهه ليصلح بين المتخاصمين، إذ لا يخفى أن الخلاف أمر طبيعي بين البشر، لا يسلم منه أحد. فقد وقع بين خيار البشر من الأنبياء والصالحين، فكيف بغيرهم؟
الإصلاح بين الناس من أحب الأعمال إلى الله تعالى وأكثرها فضلًا وأعظمها أهمية. ولعل أعظم دليل على ذلك أن الشارع سبحانه وتعالى أباح الكذب لأجل الوصول إلى هذا الإصلاح، فقال صلى الله عليه وسلم: “ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرًا أو يقول خيرًا” (رواه البخاري). ويمكن الإشارة إلى أهم نقاط الفضل والأهمية في الإصلاح بين الناس كما يلي:
- هو وظيفة الأنبياء: فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يذهب بنفسه للإصلاح بين الناس، ولو بَعُدَت المسافة. فقد بلغه أن بعض الناس اقتتلوا، فقال لأصحابه: “اذهبوا بنا نُصلح بينهم”.
- هو من أفضل الأعمال: قال الله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} (النساء: 114).
- وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “ألا أُخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟” قالوا: بلى يا رسول الله. قال: “إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة” (رواه أبو داود، وفي رواية الترمذي: “لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين”).
- هو من أفضل الصدقات: قال صلى الله عليه وسلم: “كل سُلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس، تعدل بين الاثنين صدقة” (أخرجه البخاري ومسلم).
- ويقول صلى الله عليه وسلم: “أفضل الصدقة إصلاح ذات البين” (صححه الألباني).
- هو وسيلة للحفاظ على وحدة وتماسك المؤمنين: قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الحجرات: 10).
- حتى أن الله تعالى أمر بقتال الطائفة الممتنعة عن الصلح، لأنه في فساد بين المؤمنين فساد للدين، فقال تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (الحجرات: 9).
- فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين.
- هو سد لطريق الشيطان المنيع: إذ أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك بقوله: “إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم” (رواه مسلم).
اشتراطات في المصلح بين الناس
قبل الإشارة إلى آداب واشتراطات المصلح، لابد من إشارة سريعة إلى شروط يجب أن تتوفر في عملية الصلح ذاتها، وهي ألا تكون مخالفة لحكم الله تعالى، وألا تتضمن تحريم ما أحل الله سبحانه وتعالى، وأن تكون بتراضي الأطراف. أما بالنسبة للمصلح، فيجب أن تتوافر فيه مجموعة من الشروط والآداب التي تمكنه من تحقيق العدل، كما أشار الله تعالى في قوله: “فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ”. يمكن الإشارة إلى تلك الآداب في النقاط التالية:
- أن يتوجه المصلح بعمله إلى وجه الله الكريم، وأن يكون ناصحًا لكل مسلم.
- أن يكون ذا خلق ودين، متصفًا بالأخلاق الكريمة، مبتعدًا عن الأخلاق السيئة، فلا يغتاب ولا ينم، لأن الغيبة والنميمة إفساد، والإصلاح والإفساد لا يجتمعان.
- أن يتحلى بالحلم وسعة البال والصبر والتأني، وعدم العجلة.
- أن يكون ذا علم شرعي، عالمًا بما يحل ويحرم، وبالشروط والأحكام، خاصة في مجال الخصومة.
- أن يكون خبيرًا في مجال النزاع، عالمًا بالوقائع، محيطًا بالقضية وملابساتها، باحثًا عن مسبباتها، عارفًا بطرق معالجة المشكلات ووضع الحلول والتسويات العادلة المقترحة، سواء كانت في مجال المشاكل الزوجية أو العقار أو الديون.
- المحافظة على أسرار المتخاصمين، يقول الفضيل بن عياض في أهمية الستر: «المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويفضح».
- أن يكون لطيفًا مع الناس، وأن يحرص على استعمال الأسلوب الحسن والحكمة والبصيرة، والبعد عن العبارات الجارحة. وأن يحسن الاستماع، وأن يكون محايدًا، بحيث يحرص على أن ينظر إليه الطرفان بوصفه شخصًا محايدًا لا يميل مع أي منهما.
وسائل وأساليب معينة للمصلح في تحقيق الصلح
يمكن الإشارة إلى عدة نصائح وأساليب تعين المصلح على إقامة العدل وتحري الدقة، وتأمين تنفيذ ما تم الاتفاق عليه. وهذه الإجراءات قد تكون قبل وأثناء عملية الصلح وكذلك بعد إتمامها:
- الاعتماد والتوكل على الله والصبر والتحمل.
- الجلسات الانفرادية مع الخصم المتعنت، والتدرج في عرض الصلح عليه.
- الاستعانة بالأقارب ممن يرغبون في الإصلاح، خاصة ممن لهم مكانة عند هذا الخصم.
- الرفع من قيمة الخصم، مثل قول: “أنت من عائلة كريمة، وما نسمع عنكم إلا كل خير… أنت رجل تحفظ القرآن، أنت رجل حججت بيت الله…”، إلى آخره.
- مناقشة الطلبات والشروط، والمطالبة بترتيبها من حيث الأهمية. ومناقشة صحة وقوة ما يستند إليه، ومدى قوة موقفه، وهل من صالحه التعنت أم الصلح. وبيان مزايا الصلح على القضاء، وبيان موقفه لو رفع الأمر إلى القضاء.
- مطالبته بطرح الاقتراحات والحلول وعروض التسوية.
كذلك بعد الاتفاق والتصالح:
- توثيق عقد الصلح بالكتابة والإشهاد عليه: إذا وقع الصلح بشروطه، من شأنه أن يسقط الحقوق والدعاوى التي جرت من أجلها المصالحة.
- تنفيذ ما تم الاتفاق عليه: فلابد أن يكون الصلح المبرم بين طرفين أو أكثر ملزمًا بما تم الاتفاق عليه.
- التأكيد على أطراف الخصومة بعدم التحدث عما حصل: يجب أن يحتسب كل طرف ما حصل عند الله تعالى، وألا يغتاب خصمه أو يسبه أو يشتمه في حضوره أو غيابه.
إن الاجتهاد في توفير من يسعى للإصلاح بين أفراد الأمة وطوائفها، لا يقل أهمية عن الاجتهاد في توفير ولاة أمورها المؤهلين لقيادتها نحو مراد الله سبحانه وتعالى. فإن خلو الأمة من القادرين المؤهلين للإصلاح بين الناس يسبب فسادًا كبيرًا، لأنه قد يؤدي إلى تشرذم حال الأمة وتفكك وحدتها والاقتتال بين طوائفها والخصام بين أفرادها.
وقد تبين مما سبق ذكره عظم وأهمية الدور الذي يقوم به المصلح على مستوى الفرد والطائفة والأمة كلها. ولكن لابد من التأكد من توافر الشروط والآداب في من يتصدر لهذه المهمة، لأنه قد يفسد أكثر مما يصلح إذا خلت شخصيته من تلك الآداب والشروط. ويجب تغليف كل تلك العملية بنية صادقة وتوجه مخلص لوجه الله الكريم، وإرادة النصح لكل مسلم.