اهتمت الشريعة الإسلامية بصلاح القلب وصفائه واستقامته كاهتمامها بالجسد وصحته وسلامته، بل إنها جعلت أعمال القلوب أفرضُ على العبد من أعمال الجوارح، وأعطتْ القلب دور الرّيادة والقيادة والتوجيه، بينما الجوارح تستجيب لندائه وتخضع لسلطانه. وأعمال القلب- من الإخلاص، والصبر، والتوكل، والخشية، والتقوى، والتفكر، والرضا، وغير ذلك، هي الغاية من أعمال الجوارح، وهي التي تحفظ على العبد دينه، وتسلحه ضد شياطينه، ولا يزكو القلب ويطهر إلا بهذه الأعمال الشريفة، التي تقرب العبد من ربه وتطوع له جوارحه لعبادته وطاعته.
ولا شك أنّ الإخلاص للهِ تعالى، أحد أهم أعمال القلوب التي تُربّي الإنسان على صنائع الخير، وهو غايةُ كل مُرِيد، وبدونه لا أجرَ ولا ثواب، وبغيره لم يكن ليصل أصحابُ النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى ما وصَلوا إليه من صدق في العمل وبعد عن الرياء والسمعة والعجب.
الإخلاص في القرآن والسنة
ويُعرّف الإخلاص في اللغة، بأنه الصفاء والنقاء، ويقول عنه ابن فارس، إنّ الخاء واللام والصاد من أصل واحد وهو تنقية الشيء وتهذيبه، وأخلص لله دينه أي ترك الرياء، والمخلص هو الذي وحّد الله خالصًا وهو الذي خلّصه الله وطهره.
وفي الشرع، يعني إفراد الحق سبحانه بالقصد والطاعة، وأن يكون العمل لله سبحانه، لا نصيب لغير الله فيه، وهو تجريد القصد طاعة للمعبود، وهو استواء عمل الظاهر والباطن. وقال العز بن عبد السلام في معناه: “أن يفعل المكلف الطاعة خالصة لله وحده، لا يريد بها تعظيمًا من الناس ولا توقيرًا، ولا جلب نفع ديني، ولا دفع ضرر دنيوي”. وقال عنه ابن القيم: “هو إفراد الحق سبحانه بالقصد في الطاعة”، وقال ابن رجب: “في اللغة ترك الرياء، وفي الاصطلاح: تخليص القلب عن شائبة الرياء المكدر لصفائه”.
وتحدث الله- سبحانه وتعالى- في آيات كثيرة عن هذا العمل القلبي العظيم، فأمر عباده به في قوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]، بل أمر النبيَّ- صلى الله عليه وسلم- ذاتَه به فقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 2].
وهذا العمل يُنجّي صاحبه من غواية إبليس التي تدخل النار، فقال تعالى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82 – 83]، ويورث نعيم الجنة، يقول سبحانه: {وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ * لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ * وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} [الصافات: 39 – 49].
بل إن كل فعل يقوم به الإنسان، يجب أن يخضع لهذا العمل القلبي، يقول سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162-163].
وإخلاص المرء يُطهّر قلبه من الحقد والغلِّ والخيانة، فقد روى زيد بن ثابت- رضي الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “ثلاثٌ لا يُغِلُّ عليهن قلبُ امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، والمناصحة لأئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم؛ فإن دعوتهم تحيط مِن ورائهم” (أحمد وابن ماجه).
وهو طريق النصر، لما رواه النسائي عن سعد بن أبي وقاص- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: “إنما ينصر الله هذه الأمَّةَ بضعيفها؛ بدعوتهم، وصلاتهم، وإخلاصهم”، وفي الصحيحين، عن النبي صلى الله عليه وسلم-، قال: “سبعةٌ يُظِلُّهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله…”، وذكر منهم: “ورجل تصدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شمالُه ما تُنفِق يمينُه”.
وعن المستورد بن شداد، عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “من أكل برجلٍ مسلمٍ أكلةً فإن اللهَ يُطعِمُه مثلها من جهنمَ، ومن كُسىَ ثوبًا برجلٍ مسلمٍ فإن اللهَ يكسوه مثلَه من جهنمَ، ومن قام برجلٍ مقامَ سمعةٍ ورياءٍ، فإن اللهَ يقومُ به مقامَ سمعةٍ ورياءٍ يومَ القيامةِ” (صحيح أبو داود)، وقوله: برجلٍ مسلم، أي: نظيرَ أنْ يقعَ في عِرض مُسلمٍ.
وقد يعظم الأجر مع قلة العمل بشرط وجود إخلاص ونية صادقة، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “إنَّ اللَّهَ سيُخَلِّصُ رجلًا من أمَّتي على رؤوسِ الخلائقِ يومَ القيامةِ فينشُرُ علَيهِ تسعةً وتسعينَ سجلًّا ، كلُّ سجلٍّ مثلُ مدِّ البصرِ ثمَّ يقولُ : أتنكرُ من هذا شيئًا ؟ أظلمَكَ كتبتي الحافِظونَ ؟يقولُ : لا يا ربِّ ، فيقولُ : أفلَكَ عذرٌ ؟ فيقولُ : لا يا ربِّ ، فيقولُ : بلَى ، إنَّ لَكَ عِندَنا حسنةً ، وإنَّهُ لا ظُلمَ عليكَ اليومَ ، فيخرجُ بطاقةً فيها أشهدُ أن لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ ، فيقولُ : احضُر وزنَكَ فيقولُ يا ربِّ ، ما هذِهِ البطاقةُ مع هذِهِ السِّجلَّاتِ ؟ فقالَ : فإنَّكَ لا تُظلَمُ ، قالَ : فتوضَعُ السِّجلَّاتُ في كفَّةٍ ، والبطاقةُ في كفَّةٍ فطاشتِ السِّجلَّاتُ وثقُلتِ البطاقةُ ، ولا يثقلُ معَ اسمِ اللَّهِ شيءٌ” (الترمذي وأحمد).
صور من إخلاص الصحابة والصالحين
ولما كان النبي- صلى الله عليه وسلم- المثل والقدوة في الإخلاص لله- جل شأنه-، ظهرت نماذج عديدة من الصحابة والتابعين والصالحين على مر العصور، وضرب أروع الأمثلة في إخلاص العمل لله، ومن ذلك:
لما أوصى النبي- صلى الله عليه وسلم- عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- أن يطلب من أويس القرني، أن يدعو له، وأخبره أنه يأتي في أمداد اليمن، وذكر له صفته، فكان عمر يترقب ويتحرى حتى عثر عليه، فكلمه، وسأله حتى استيقن أنه هو فطلب منه أن يدعو له، ثم بعدها اختفى أويس فلم يُعرف له أثر بعد ذلك، وقد اختفى لشدة إخلاصه لما انكشف أمره خشي أن يتعلق الناس به، وأن يثنوا عليه ويطروه، وأن يتتبعوا آثاره يطلبون منه الدعاء، أو يطلبون منه أن يستغفر لهم، وما إلى ذلك، فاختفى في أجناد المسلمين وخرج غازيا في سبيل الله، ولم يوقف عليه بعدها، ومع ذلك كان أويس يقول: “لن تعالج شيئًا أشد عليك منها”، يعني: النية. (مسلم).
وقد رفض أحد الأعراب من حديثي العهد بالإسلام أن يحظى بنصيبه من السبي عن غزوة خاضها مع النبي- صلى الله عليه وسلم-، وقال أنا لم أدخل معك في الإسلام إلا لأُقْتل في سبيل الله، فقال له- صلى الله عليه وسلم-: “إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ” فلبثوا قليلا، ثم نهضوا في قتال العدو، في غزوة ثانية، فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم يُحمل، وهو مقتول شهيد رضي الله عنه وأرضاه، الأعرابي قد أصابه سهم حيث أشار فقال النبي صل الله عليه وسلم: “أَهُوَ هُوَ؟ قالوا: نعم.قال: “صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ اللَّهُ” ثم كفنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبته، ثم قدمه، فصلى عليه فكان فيما ظهر من صلاته:”اللَّهُمَّ إِنَّ هَذَا عَبْدُكَ خَرَجَ مُهَاجِرًا فِي سَبِيلِكَ، فَقُتِلَ شَهِيدًا، أَنَا شَهِيدٌ عَلَى ذَلِكَ” (النسائي).
والإخلاص يفرج الكربات ويرفع البلاء، فقد سمع عبد الله بن عمر بن الخطاب- رضي الله عنهما-، من رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، قصة ثلاثة نفر من الأقوام السابقين، يَقُولُ- صلى الله عليه وسلم-: انْطَلَقَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كانَ قَبْلَكُمْ حتَّى أوَوُا المَبِيتَ إلى غَارٍ، فَدَخَلُوهُ فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الجَبَلِ، فَسَدَّتْ عليهمُ الغَارَ، فَقالوا: إنَّه لا يُنْجِيكُمْ مِن هذِه الصَّخْرَةِ إلَّا أنْ تَدْعُوا اللَّهَ بصَالِحِ أعْمَالِكُمْ، فَقالَ رَجُلٌ منهمْ: اللَّهُمَّ كانَ لي أبَوَانِ شَيخَانِ كَبِيرَانِ، وكُنْتُ لا أَغْبِقُ قَبْلَهُما أهْلًا ولَا مَالًا، فَنَأَى بي في طَلَبِ شَيءٍ يَوْمًا، فَلَمْ أُرِحْ عليهما حتَّى نَامَا، فَحَلَبْتُ لهما غَبُوقَهُمَا، فَوَجَدْتُهُما نَائِمَيْنِ وكَرِهْتُ أنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُما أهْلًا أوْ مَالًا، فَلَبِثْتُ والقَدَحُ علَى يَدَيَّ، أنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُما حتَّى بَرَقَ الفَجْرُ، فَاسْتَيْقَظَا، فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا، اللَّهُمَّ إنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذلكَ ابْتِغَاءَ وجْهِكَ، فَفَرِّجْ عَنَّا ما نَحْنُ فيه مِن هذِه الصَّخْرَةِ. فَانْفَرَجَتْ شيئًا لا يَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ. قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: وقالَ الآخَرُ: اللَّهُمَّ كَانَتْ لي بنْتُ عَمٍّ، كَانَتْ أحَبَّ النَّاسِ إلَيَّ، فأرَدْتُهَا عن نَفْسِهَا، فَامْتَنَعَتْ مِنِّي حتَّى ألَمَّتْ بهَا سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ، فَجَاءَتْنِي، فأعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ ومِئَةَ دِينَارٍ علَى أنْ تُخَلِّيَ بَيْنِي وبيْنَ نَفْسِهَا، فَفَعَلَتْ، حتَّى إذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا، قالَتْ: لا أُحِلُّ لكَ أنْ تَفُضَّ الخَاتَمَ إلَّا بحَقِّهِ، فَتَحَرَّجْتُ مِنَ الوُقُوعِ عَلَيْهَا، فَانْصَرَفْتُ عَنْهَا وهي أحَبُّ النَّاسِ إلَيَّ، وتَرَكْتُ الذَّهَبَ الَّذي أعْطَيْتُهَا، اللَّهُمَّ إنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ابْتِغَاءَ وجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا ما نَحْنُ فِيهِ. فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ، غيرَ أنَّهُمْ لا يَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ منها. قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: وقالَ الثَّالِثُ: اللَّهُمَّ إنِّي اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ، فأعْطَيْتُهُمْ أجْرَهُمْ غيرَ رَجُلٍ واحِدٍ تَرَكَ الَّذي له وذَهَبَ، فَثَمَّرْتُ أجْرَهُ حتَّى كَثُرَتْ منه الأمْوَالُ، فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ فَقالَ: يا عَبْدَ اللَّهِ، أدِّ إلَيَّ أجْرِي، فَقُلتُ له: كُلُّ ما تَرَى مِن أجْرِكَ مِنَ الإبِلِ والبَقَرِ والغَنَمِ والرَّقِيقِ، فَقالَ: يا عَبْدَ اللَّهِ، لا تَسْتَهْزِئُ بي! فَقُلتُ: إنِّي لا أسْتَهْزِئُ بكَ، فأخَذَهُ كُلَّهُ، فَاسْتَاقَهُ، فَلَمْ يَتْرُكْ منه شيئًا، اللَّهُمَّ فإنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذلكَ ابْتِغَاءَ وجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا ما نَحْنُ فِيهِ. فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ، فَخَرَجُوا يَمْشُونَ.” (متفق عليه).
ولمَّا كان يَومُ فَتحِ مَكَّةَ أمَّنَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الناسَ إلَّا أربَعةَ نَفَرٍ وامرأتينِ، وقال: اقتُلوهم وإنْ وَجَدتُموهم مُعَلَّقينَ بأستارِ الكَعبةِ: عِكرِمةُ بنُ أبي جَهلٍ، وعبدُ اللهِ بنُ خَطَلٍ، ومَقيسُ بنُ صُبابةَ، وعبدُ اللهِ بنُ أبي سَرحٍ… فأمَّا عِكرِمةُ بنُ أبي جَهلٍ فرَكِبَ البَحرَ، فأصابَتهم عاصِفٌ، فقال أهلُ السَّفينةِ: أخلِصوا؛ فإنَّ آلِهَتَكم لا تُغني عنكم شَيئًا ههنا. فقال عِكرِمةُ: وَاللهِ لَئنْ لم يُنجِني في البَحرِ إلَّا الإخلاصُ، لا يُنجِني في البَرِّ غَيرُه، اللَّهمَّ إنَّ لكَ عَهدًا إنْ أنتَ عافَيْتَني ممَّا أنا فيه أنْ آتيَ محمَّدًا حتى أضَعَ يَدي في يَدِه، فلَأجِدَنَّه عَفُوًّا غَفورًا كَريمًا، فجاءَ وأسلَمَ.
ولما حاصر مَسْلَمَة بن عبد الملك، حصناً فندب الناس إلى نقب منه، من يدخل ليفتح لنا؟ فما دخله أحد، فجاءه رجل من عرض الجيش فدخله ففتح الله عليهم، فنادى مسلمة أين صاحب النقب؟ أين صاحب النقب؟ فما جاءه أحد، فنادى القائد بالجيش: إني قد أمرت الآن بإدخاله ساعة يأتي، فعزمت عليه إلا جاء، فجاء رجل فقال: استأذن لي على الأمير، فقال له: أنت صاحب النقب؟ قال: أنا أخبركم عنه، فأتى مسلمة فأخبره عنه، فأذن له، فقال له: إن صاحب النقب يأخذ عليكم ثلاثاً: ألا تسوّد اسمه في صحيفة الخليفة، ولا تأمروا له بشيء- يعني: من المال- ولا تسألوه ممن هو ولا تستخبروا عن اسمه، قال القائد مسلمة: فذلك له، فقال الرجل: أنا هو، هذا الرجل لأن أمر القائد لا بد أن يطاع، القائد قال: عزمت عليه أن يأتي، لا بد أن يطاع، فكان مسلمة لا يصلي بعدها صلاةً إلا قال: اللهم اجعلني مع صاحب النقب.
وللإمام الماوردي قصة في إخلاصه في العمل، فقد ألف المؤلفات في التفسير والفقه وغير ذلك ولم يظهر شيء في حياته، ولما دنت وفاته قال لشخص يثق به: الكتب التي في المكان الفلاني كلها تصنيفي وإنما إذا عاينت الموت ووقعت في النزع فاجعل يدك في يدي فإن قبضت عليها فاعلم أنه لم يقبل مني شيء فاعمد إليها وألقها في دجلة بالليل وإذا بسطت يدي فاعلم أنها قبلت مني وأني ظفرت بما أرجوه من النية الخالصة، فلما حضرته الوفاة بسط يده، فأظهرت كتبه بعد ذلك.
وهذا أبو الحسن محمد بن أسلم الطوسي يقول عنه خادمه أبو عبد الله، كان محمد يدخل بيتاً ويُغلق بابه، ويدخل معه كوزاً من ماء، فلم أدر ما يصنع، حتى سمعتُ ابناً صغيراً له يبكي بكاءه، فَنهتهَ أمُهُ، فقلتُ لها: ما هذا البكاء؟ فقالت إن أبا الحسن يدخل هذا البيت، فيقرأ القرآن ويبكي، فيسمعه الصبي فيحكيه، فإذا أراد أن يخرج غسل وجهه؛ فلا يُرى عليه أثر البكاء.
كيف يتحقق الإخلاص؟
ويتحقق الإخلاص لله سبحانه وتعالى بالالتزام بعدة أمور، منها:
- اليقين بالعبودية لله: فالعبد لا يستحق على خدمته لسيده عوضًا ولا أجرًا، إذ هو يخدمه بمقتضى عبوديته، فما يناله من سيده من الأجر والثواب تفضل منه وإحسان إليه، ولا معاوضة.
- الإقرار بفضل الله وتوفيقه: وأنه بالله لا بنفسه، وأنه إنما أوجب عمله مشيئة الله لا مشيئته هو، وكل خير فهو مجرد فضل الله ومنته.
- مطالعة العيوب والتقصير، فإن ما في الإنسان من عيوب فمن حظ النفس ونصيب الشيطان، سئل صلى الله عليه وسلم عن التفات الرجل في صلاته؟! فقال: “هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد”.
- الخوف من مقت الله تعالى، إذا اطلع على قلبه وهو منطوٍ على الرياء.
- الإكثار من العبادات غير المشاهدة وإخفائها، كقيام الليل، وصدقة السر والبكاء خالياً من خشية الله.
- تحقيق تعظيم الله: بتحقيق التوحيد والتعبّد لله بأسمائه الحسنى وصفاته “العلي العظيم – العليم – الرزاق – الخالق”.
- إخفاء الطاعات وعدم التحدّث بها.
- الخوف من الشرك بنوعيه.
- تعاهد النفس بالوعظ ومجالس الذكر ومصاحبة أهل الإخلاص.
- تذكّر عظم نعمة الله سبحانه على المرء وشكرها، ونسبتها إلى مسببها، والاعتراف بها ظاهراً وباطنًا.
- اعتياد الطاعات بحيث تصير جزءاً لا يتجزأ من حياة المرء.
- معرفة أسماء الله وصفاته وتعظيم الله.
- تذكر الموت وأهواله.
- الإكثار من الأعمال المخفية.
- أن يرُدَّ الرياء بالاقتداء، وأن يعلم عاقبة الرياء.
- الإلحاح على الله بالدعاء، فقد كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يكثر من الدعاء والإلحاح على الله.
- تدبر القرآن.
- التخلص من حظوظ النفس، فإنه لا يجتمع الإخلاص في القلب وحب المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلّا كما يجتمع الماء والنار.
- المجاهدة: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت: 69).
إن الإخلاص عملي قلبي عزيز يحتاج إلى مجاهدة قبل العمل وأثنائه وبعده، حتى يكون عمل العبد لله، لأن العملُ لأجلِ الناسِ وابتغاء الجاهِ والمنزلة عندهم ورجائهم للضرِّ والنفعِ منهم لا يكون من عارِفٍ بهم البتة؛ بل من جاهلٍ بشأنِهم وجاهلٍ بربِّه؛ فمن عرفَ الناسَ أنزلَهم مَنازلَهم، ومن عَرفَ اللهَ أخلصَ له أعمالَه وأقوالَه وعطاءَه ومنعَه وحُبَّه وبُغضَه.
المصادر والمراجع:
- ابن فارس: المقاييس في اللغة، 2/208.
- الدكتور عمر بن سليمان الأشقر: مقاصد المكلفين، ص 359.
- تقي الدين الحصني: القواعد، 1/165.
- ابن القيم: مدارج السالكين 2/ 91.
- ابن القيم: التبيان في أقسام القرآن، ص 45.
- الذهبي: تاريخ الإسلام، ٣٠/ ٢٥٤.
- ابن عساكر: تاريخ دمشق، 58/ 36.
- أبو نعيم: حلية الأولياء، رقم الحديث (14220).