تروي إحدى الأمهاتُ ما جرى أمامَ عينِها يومًا فتقول:
صدمتْ سيارةً أمًّا وصغيرَها المحمولَ بين ذراعَيْها
كادت الأمُّ أن تكون تحت عجلات السيارة
أما الصغيرُ فقد كان سالمًا وابتعد عنها قليلًا
قامت الأم تصرخُ مناديةً على صغيرها
لم تلتفت إلى نفسها ولم تتوجه إلى السائقِ الذي صدمها
بل ذهبت متلهفة تحتضنُ ابنَها وتقلُّبُه كي تطمئنَّ على سلامته
مشهدٌ لا يُنسى
كان مكتسيًا بعاطفةٍ غريبة
تقول الأم الشاهدة: حدث هذا منذ سنواتٍ وأنا في طريقي لزيارة طبيبتي
تمهيدًا لاستقبال أولِ أبنائي
تساءلْت حينها تساؤل المتعلِّم: أهكذا هي الأمومة إذن؟!
ثم عرفت بعدها أنّ في الأمومة ما يمكن أن نتعلمَه
لكنّ سوادَها الأعظم نُفطَرُ عليه من البدايات
ذاك المشهدُ السابق يلخص أقوى ما فينا- نحن الأمهات-
ترى أمومتَنا الطاغيةُ ونحن نشعرُ بالغضب من بعوضةٍ تحوم حول أبنائنا نيامًا
ونظل نطاردُها كطفلٍ شارد خلفَ فراشةٍ في حديقة غَنَّاء
لا لهوًا ولامرحًا
وإنما حمايةً لصغارِنا ولو من قرصةٍ!
نتألمُ ويدُ صغارِنا قد غُرست فيها إبرة الطبيب
ونراه في هذه اللحظة قاسيًا
إذ كيف طاوعته نفسُه أن يُدخل إبرةً طويلةً كهذه في يد هزيلة لا يُحسن مسكَها
نحن الأمهات أُسودٌ على مَن اقتربَ من صغارِنا
نبذل جهدًا كي نتعقل قبل أن تغلبنَا معهم العاطفة
نُكِنّ لهم الشفقة
نملك آمالًا عريضةً لهم
نقسو عليهم ثم نلتفتُ عنهم وروحُنا متروكةٌ عندهم
نحن مخبوزات عُجنت بطعم ورائحة العاطفة
بالله قل لي: أين تجد قلبًا كهذا؟
ولو دُرت العالم زاحفًا
ولو جثوت على ركبتيك راجيًا
فكل مَن يحمل لك عاطفةً كان قد رأى فيك شيئًا حرّكها
استحسَن قولَك أو فعلَك أو مظهرَك
أما هي فتحبُّ قبل أن ترى وبعدما ترى، وحتى حين يؤلمها ما ترى
هي الأوسعُ بعد الله مغفرةً
كلُّ مَن يُكِنّ لك عاطفة مُعرّض أن يعيد النظر فيها
قد تغيرُ مشاعرُه تجاهَك الفعالَ
فلا حبَّ يستمرُّ بضمانةٍ كحبِّ الأم لأبنائها
معك فيه ضمانٌ مدى الحياة
كل حبٍّ قد يُنقِصُه التكلفُ لكن حبَّ الأمِّ لا اصطناعَ فيه ولا رياء
كُثرٌ هم مَن كتبوا في الأمومة وقالوا
وقليلٌ منهم مَن كُنّ بالفعلِ أمهات
فلعلها لا تجد لذلك وقتًا
ولعلها اعتادت أن تملأَ الحياةَ عطاءً وأفعالًا وتركت لغيرها الكلام
هي لا تَمُنّ بذلك
بل الله يَمُنّ عليها وعلى خَلْقِه أن صاغها هكذا
كي تحفظَ لهذه الأرضِ سواءً نفوسَ السائرين عليها
وتُعِد أيادِ المعمرين لها
تراها وقد هيأت المكان فيلعبُ الصغار ويمرحون
وهيأت الأجواء فصارَ البيت متماسكًا مترابطًا
راقبت من بعيدٍ لتعرف ما يدورُ في خَلَدِ صغارِها
مشاعرُ أو همٌ أو أفكارٌ
وعن قربٍ تقفُ خلفَهم
تدفعُهم إلى الأمامِ دون تركٍ أو تخلٍّ
هي خيرُ قدوة لأبنائها بتفاؤلها ودأبها وصبرها
تغرسُ فيهم
ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله
وأن أركانَ إسلامِنا خمسةٌ وإيمانَنا ستةٌ
وأن كتابَنا ونبراسَ طريقِنا هو القرآن
وأن عزَّنا في الإسلام وفلاحَنا في حسن الاستسلام
وأن مراقبةَ اللهِ هي الرفيقُ على طريق السير
والاستعانةَ به هي خيرُ معين
ولِتبلغَ كلَّ هذا فهي
تخصصُ لهم وقتًا كافيًا
تتعلمُ وتقرأُ
تحنو وتمرحُ وتعلَّم
تسمعُ وتجيب .. تحاورُ وتسأل
الأمُّ هي خيرُ مَن يُخبر عن نفسه
إذْ مهما حكى عنها الغيرُ فلن يُبَلِّغُوا
ستظلُّ حكاياهم مأسورةً بما لا تُخطِئُه عينٌ من عطاءاتِ الأمومة
لكن أنّى للعيون أن تُبصرَ ذلك الضعفَ والخوفَ السابحان في جوفها
كجبلِ الجليدِ هي .. الخافي منها أكثرُ من البادي
تُربِكُها عواصفُها الداخليةُ التي لا يراها ولا يحياها غيرها
وتجدُ صعوبةً في ضبطِها
كي تظهرَ هذه العواصفُ كنسمات هادئةٍ تلامسُ شغافَ قلوبِ صغارها
كلُّ أمٍّ بحاجة إلى النورِ كما هي مصدُره
وكل أم بحاجة أن تظل على اتصال مع
ذاتها التي عرفتْها قبل أمومتِها
كما هي بحاجةٍ لأن يعي الآخرون ضعفَها فيرحموها
وأن يدركوا تفرد عاطفتها فيقدروها
هي وصيةُ مَن أُرسِلَ رحمةً للعالمين
حين قدّمها على الجهاد في سبيل الله فقال لسائلِ الجهاد
(أحيةٌ أمُّك؟)
فلما قال: نعم
قال (اِلزمْ رجلَها فثَّمَّ الجنةُ)
ليس هذا وفقط
بل هي وصيةُ ربِّ الخلائقِ لعبادِه حين قال
(وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)
والفضلُ والشكر إنما هو لله قبلَها
حيثُ وهبها تفانيَ وجمالَ الأمومةِ
إذ ليست هي اللطفَ الوحيدَ بأولادِها
بل هم أمانةُ اللهِ لها الأوسعِ بهم لُطفًا ورحمةً