يترك الأب المسافر فراغًا كبيرًا وراءه، وهو أمر واقع تعيشه الكثير من الأُسَر في ظل الظروف المعيشية الصعبة، وعلى الرغم من غياب الأب خارج الوطن من أجل العمل والكسب وتحسين المستوى الاقتصادي للأسرة، فإن هناك ثمنًا باهظًا يدفعه كل فرد من أفراد الأسرة، خصوصًا الأطفال، لكن مع اتباع استراتيجية وخطة تربوية محكمة يمكن تلاشي المخاطر المترتبة على غياب رب البيت.
تأثير الأب المسافر على تربية الأبناء
لا يقتصر دور الأب على الرعاية والتوجيه، بل يشمل المتابعة المستمرة، وبذل أقصى جهد في الاهتمام، مع استخدام الوسائل التربوية المناسبة لغرس القيم والآداب، واقتلاع الصفات السيئة، وفي ذلك يقول ابن الجوزي: “فمن رزق ولدًا فليجتهد معه، والتوفيق من وراء ذلك”.
ولا شك أن الأب المسافر لا يمكنه القيام بهذا الدور المهم على أكمل وجه، لكن عليه المحاولة، وأن يُقلل من آثار غيابه عن أسرته، والتي أبرزها:
- إصابة الأم بالعصبية: في حالة غياب الزوج تصاب الأم بالعصبية والتوتر والانفعال الزائد حتى على أبسط الأسباب، وهو ما يؤدي إلى إسقاط هذه العصبية على الأطفال فتصبح الأم عنيفة مع أبنائها وقد تضربهم أو ترفع صوتها وتثور عليهم دائمًا.
- تدخل الأهل في تربية الأبناء: فمع غياب الأب يتدخل الأجداد والأعمام والأخوال في تربية الأولاد، ويحاول الجميع فرض وصايتهم بحجة الخوف على الأبناء، وهو ما يؤدي إلى مشكلات أسرية.
- إصابة الأبناء بهوس الشراء: ويكون ذلك بسبب محاولة الأب المهاجر تعويض أبنائه عن غيابه فيغدق عليهم الأموال، ما يصيبهم بهوس الشراء، وبالتالي حدوث خلل في قدرتهم على إدارة مواردهم المالية بعد ذلك.
- تغير نمط سلوك الطفل: فغياب الأب عن أسرته قد يدفع الطفل إلى اللجوء إلى سلوكيات غير معتادة مثل نوبات الغضب المفاجئة، والتبول اللاإرادي، وقضم الأظافر، والبكاء الهستيري والصراخ بلا سبب واضح، والعناد المستمر، فهي كلها سلوكيات ينفّس بها الطفل عن إحساسه بالقلق من غياب أبيه.
- ضعف الصلة بين الأب وأبنائه: ويحدث عادة عندما تطول مدة سفر الأب، فتضعف الصلة بينهم ويصل الأمر ببعض الآباء إلى أن يصبحوا مجرد اسم في شهادات ميلاد أبنائهم لا يعرفونهم حقا.
- التدليل المفرط أو القسوة المفرطة: فبعض الأمهات تفرط في تدليل الأبناء ظنّا منهن أنهن يقمن بتعويض غياب الأب عن حياتهم، والبعض على العكس يتعاملن مع الأبناء بقسوة مفرطة كي لا يفسدهم غياب الأب.
- انخفاض احترام الذات: غالبا ما يرتبط غياب الأب عن الأسرة بانخفاض احترام الذات لدى الأطفال، حيث يساهم الأب في رسم الصورة الذاتية لدى أولاده واحترامهم لذواتهم، وعندما يغيب الأب عن الأسرة يفتقد الأطفال هذه المساندة من جهة، وربما يشعرون أنهم السبب في غيابه وأنهم أقل استحقاقا من الأطفال الذين يعيش والدهم معهم.
- مشاعر الحرمان: ويعاني كثير من الأطفال الذين يعيشون في غياب الأب من آثار الفقر ومشاعر الحرمان والنبذ الاجتماعي، لأن بعض الآباء يبخلون عليهم بحجة عمل مستقل لهم.
- فقدان الإحساس بالسلطة الأبوية: الأب في حياة الأبناء يمثل السلطة الحازمة وغيابه الأب يفقدهم الشعور بوجود هذه السلطة، وهو ما قد يؤدي إلى تمرد الأبناء على الأم أحيانا، وعدم قدرتها على ضبط سلوكهم والتزامهم بالمعايير التربوية والأخلاقية المطلوبة.
- الشعور بالعزلة الاجتماعية: بسبب غياب الأب قد تتأثر دائرة علاقات الأسرة الاجتماعية، ويتم التعامل مع هذه العائلة بنوع من الشفقة أو التسلط أحيانا من العائلة الكبيرة، وهو ما يجعل الطفل يشعر بالعزلة الاجتماعية وهشاشة علاقته مع أسرته الكبيرة.
- الشعور بالاختلاف: فالأطفال يقتدون بآبائهم ويرون فيهم مثال القوة والشجاعة ويتعلمون منهم قواعد السلوك، ويشعرون بالفخر بآبائهم، وحرمان الطفل من وجود الأب يجعله يرى أنه مختلف عن أقرانه، ومحروم من شيء أساسي موجود لدى أقرانه.
- جلد الذات باستمرار: فالأطفال يشعرون بالذنب لغياب والدهم عن الأسرة، وقد يعتقدون أن والدهم لا يريدهم وأنهم السبب المباشر لغيابه عنهم.
- الخوف من الارتباط: قد يكون تأثير غياب الأب على نفسية الطفل مرتبطا بنظرة الطفل للعلاقة الأسرية نفسها، فيكبر على شعور سلبي تجاه الارتباط والزوج وتأسيس أسرة، وقد يمتد هذا التأثر حتى للعلاقات الاجتماعية الأخرى.
ماذا تفعل الأسرة في غياب الأب المسافر؟
ويُمكن الحد من تأثير غياب الأب المسافر عن الأسرة، باتباع عددٍ من الخُطوات التي تمثل استراتيجية تربوية متينة، وذلك على النحو التالي:
- تواصل يومي بين الأب وأولاده: وفي ظل الانفتاح التكنولوجي تعد هذه الخطوة سهلة وغير مكلفة، فمن المهم المحافظة على مكالمة بينهم كل يوم في الصبح أو المساء للحدث عن أحوالهم ودراستهم ومشكلاتهم.
- عمل جدول بالسفر: من الممكن عمل جدول بسفر الوالد وكل يوم يشطب الأطفال على اليوم الذي يمر، وهو ما يغرس فيهم الاشتياق إلى رؤية الأب، كما أن ذلك يدفعهم إلى الالتزام بتوجيهاته التي يأمرهم بها خلال التواصل عبر الهاتف.
- ممارسة الحياة الطبيعية: أي الأم والأبناء في الأنشطة التي كانوا يؤدونها أثناء تواجد الأب معهم.
- استشارة الأب في كل شيء: فعلى الأم تعويد الأطفال على الحديث مع والدهم عبر الهاتف واستشارته في أمورهم، ولا يتخذون أي قرارات إلا بموافقته.
- ممنوع تدخل الغير: يؤكد الأب أثناء غيابه على عائلته أنه وزوجته المسؤلان عن تربية الأبناء، بحيث لا يتدخل أحد من العائلة فيفسد ما يفعله من تربية وطريقة تعامل مع أولاده، فمن المهم الصرامة في هذه النقطة.
- إظهار الأم الحنان لأبنائها: فهي الآن تقوم بدور الأم والأب معا، فعليها أن تمنحهم الحنان وتدعمهم، وتخصص وقتًا كل يوم للعب أو القراءة أو الجلوس معهم.
- جدول روتين يومي ثابت: يشمل جدولا منظما لأوقات الوجبات وأوقات الأنشطة واللعب ومواعيد النوم، وهو ما يشعر الأطفال بالأمان.
- ممنوع التدليل: فلا داعي أن تدلل الأم أطفالها بحجة تعويضهم عن غياب والدهم، فمن المهم تأديب الأولاد وتهذيب سلوكهم حتى لا يحدث أي خلل في تصرفاتهم.
- المسؤولية المناسبة للطفل: فلا تتوقع الأم أن يحل الطفل محل والده في تحمل مسؤولية الأسرة، فالطفل من المهم أن يعيش طفولته ولا نعامله كأنه رجل كبير.
- تحلي الأم بإيجابية: ولا بأس أن تكون صريحة مع أطفالها في حال كانت تمر ببعض الصعوبات، لكن تؤكد لهم أن الأمور ستتحسن، وتحتفظ بروح الدعابة عند التعامل مع التحديات اليومية.
- توفير بيئة عائلية مستقرة: على الأم الحفاظ على بيئة عائلية مستقرة وحب وعطف، وتعزيز الشعور بالأمان لدى الأبناء.
- تطوير مهارات الطفل الاجتماعية: يمكن للأم تشجيع الطفل على المشاركة في الأنشطة الاجتماعية والرياضية لتطوير مهاراته الاجتماعية.
- استشارة مختص: في بعض الحالات، قد يكون من المفيد استشارة مختص نفسي لمساعدة الطفل على التكيف مع غياب الأب.
ورغم خطورة غياب الأب عن الأسرة، فإنه من الممكن أن يشارك في تربية الأبناء عن بعد من خلال المكالمات الهاتفية وقراءة القصص لهم وتقديم النصائح، وإظهار الحب والاهتمام بشكل مستمر، حتى يعود إلى المنزل مع أقرب فرصة لتجديد العلاقة بين جميع أفراد الأسرة.
مصادر ومراجع:
- محمد إسماعيل المقدم: محو الأمية التربوية 1/9.
- ابن الجوزي. الحث على حفظ العلم وذكر كبار الحفاظ. ص 17.
- د. رنا هاني: غياب الأب المسافر عن أطفاله .. إزاي ممكن تعوضيه؟
- ليلى علي: في غياب الأب.. 12 نصيحة لتربية طفلك بمفردك.
- كاميليا حسين: الأب المسافر وأثر ذلك على الطفل.
- عامر العبود: تأثير غياب الأب على الأسرة وتربية الأبناء في غياب والدهم.