الاستشارة
أنا أم لأبناء في مراحل مختلفة، مع كثرة البدائل المتاحة لجيل أبنائنا في شتى المجالات، أرى أنه من الصعب عليهم اتخاذ القرار، فكيف لجيل لم تكن لديه كل هذه البدائل أن يربي هذا الجيل منفتح الأفق واسع الخيارات، وأكثرنا لم يتعرض لفكرة الاختيار في الصغر بالأساس، فالمدارس أغلبها كان حكوميًا وليس فيها هذا التنوع الشديد الموجود الآن، والجامعات كانت أهلية، الآن الخيارات مفتوحة لهم حتى التعلم في آخر البلدان إن أرادوا.
كما كانت الملابس محلية فقط، لا ماركات ولا تسوق عبر الإنترنت، وحتى يشتري أحدهم شيئًا يظل يقلب في الهاتف جيئة وذهابًا من كثرة الاختيارات، وربما لا يشتري بعد كل هذا الفحص والبحث، فكيف أساعد أبنائي في مسألة اتخاذ القرار؟!
الرد
نوافقك الرأي أن الانفتاح صعّب مسألة اتخاذ القرار لتعدد البدائل، لكن ليس الانفتاح وحده هو السبب.
في السابق وبرغم قلة المتاح ستجدين أيضًا من يعاني من صعوبة الحسم واتخاذ القرار، وذلك لعدة أسباب مختلفة، ثمة معوقات تحدث أثناء عملية التربية، تكون نتيجتها فتى أو فتاة يتعثرون في اتخاذ أبسط القرارات، فما هي الأسباب التي قد تؤدي إلى ذلك؟!
- الأب أو الأم المتسلطان: الذين لا يسمحون لأبنائهم أن يختاروا أو يقرروا؛ لشكهم في قدرات أبنائهم على إنجاز المهمات، أو لإجادة الأبوين أو أحدهما دور المنقذ، حيث اعتاد أن يكون هو المتصرف فلا يسمح لغيره بالتصرف. كذلك الآباء العصبيون الذين لا يتحملون أخطاء التجريب، فيفضلون عمل الأشياء بأيديهم على تحمل مسئولية توجيه الأبناء.
- الأب أو الأم المهملان: لا يكترثون لأهمية التربية بالأساس، هم في حد أنفسهم ليسوا قدوة لأبنائهم، متعثرون في لعب أدوارهم في الحياة، يعيشون دور الضحية، يلقون باللوم على الآخرين، دائمًا قليلو الحيلة في البحث عن حلول، وتحصيل أسباب الرزق، يكتفون بالعمل الحكومي كما كان عليه آباؤهم ثم يشتكون من صعوبة الحياة، ولو فكروا قليلًا لوجدوا أن عليهم اتخاذ قرارات مغايرة عما وجدوا عليه آباءهم وتغير حالهم للأفضل.
- ثقافة المجتمع: بعض المجتمعات التي تتمتع بالرخاء، يكون ذلك وبالًا على أبنائهم إذا لم ينتبهوا، فالخادمة والسائق وغيرهم ممن يساعدونا، قد يصبحوا سببًا لعدم تحمل أبنائنا المسئولية، فيعتاد الطفل أن يبعثر وغيره يرتب، فتتحول النعمة إلى نقمة، تكتشف أكثر البنات اللاتي دللن في بيوت أهلهن عظم حجم المسئولية الملقاة على كاهلهن بعد الزواج، فيبكين حسرة على فرص أضاعوها للتعلم وهم في سعة من وقتهم!
إذًا، كيف نربي أبناءنا على تحمل المسئولية واتخاذ القرار؟
التربية نوعان: مباشرة، وغير مباشرة..
أما التربية المباشرة، فيخطط لها الأهل بشكل جيد ويتنقلون من خطوة إلى أخرى وهم يقصدون تدريب الأبناء على تحمل المسئولية ومن ثم اتخاذ القرار، ومراحل التدريب على تحمل المسئولية واتخاذ القرار :-
أولًا: في نطاق البيت والأسرة:
متمثلة في دور الأم خصوصًا في مرحلة التعلم ما بين 3 – 6 سنوات حيث تكون الأم هي الموجه الأول للطفل، ثم يأتي دور الأب بشكل أكثر وضوحا في المراحل العمرية التالية.
نساعد الطفل في مراحل التعلم الأولى على التخيير بين أمرين، وندربه على تحمل تبعات اختياره، ونتعاطف معه إذا حزن على اختيار خاطئ، ولا نعيره بأن هذا اختياره إذا اتضح أنه اختيار غير مناسب، فيتعلم في المرات القادمة الروية في التفكير، ودراسة البدائل الممكنة بشكل أفضل.
إرساء فكرة الروتين اليومي في المهام المنزلية و في النظافة الشخصية يجعله يتدرب يوميا على اتخاذ قرارات مختلفة بما يبدأ يومه، وماذا يؤجل، وهل سيحتاج لمساعدة أحدهم أم يستطيع فعل ما عليه بنفسه؟!
ميزة الروتين ثبات المهام وتكرارها برغم اختلاف ظروف الحياة، فلو أرسينا عدة مهام وتابعناها وتركنا للأبناء مساحة للتصرف والمراقبة عن بعد لعزز ذلك في قدراتهم على اتخاذ القرار.
ثانيًا: مرحلة المجتمع خارج المنزل:
كالنادي، أو أي نشاط خارج المنزل من بعد عمر السادسة، حيث يتدرج ويتدرب فيه الطفل على تحمل أنواع مختلفة من القرارات غير التي تدرب عليها في المنزل، فيتعلم الطفل أن يكون مسؤولًا عن سلوكياته وتصرفاته ويدرك تأثيرها على قراراته وقرارات من حوله، يتخذ يوميًا عدة قرارات في تعاملاته مع الآخرين خارج نطاق الأسرة، من يصاحب؟ من يهادي؟ من يقرر أن يحد من علاقته معه؟ وغيرها من عشرات القرارات التي تختلف كثيرًا عن مرحلة التعلم داخل بناء الأسرة، لذا يعد أبناء المجتمعات الأكثر انفتاحًا ذوي قدرات مختلفة عن أقرانهم الذين تربوا في أسر منغلقة، تراهم يرجعون إلى الأهل في أبسط القرارات.
ثالثًا: مرحلة العمل التطوعي:
يبدأ في المرحلة التي يدرك فيها الطفل معنى الثواب، بداية من سن السابعة، فيشارك في الإطعامات وغيرها من أفعال الخير. ودورنا يكون في إرشاده إلى الفاعليات ثم نترك له الاختيار في القرارات الداخلية كأن يقتطع جزءًا من مصروفه ويشارك، أو يشارك بجهده، يحتاج الطفل إلى معرفة البدائل، حتى يسهل عليه تحديد الاختيارات المناسبة له، ولنا أن نتخيل أي بيئة طيبة هذه التي تعين في تربية أبناء راشدين مسئولين يعرفون أن هناك مواسم للخيرات والطاعات يستتبعها منظومة من القرارات التي يجب أن تتخذ بشكل باكر مسبق، كالادخار وتحديد أوجه الإنفاق المختلفة، وفرز الملابس القديمة للتبرع بالجيد منها، وتقرير مدى حاجته لشراء غيرها من عدمه، وغيرها من محاسن تلك البيئات المعينة على شتى جوانب الخير.
رابعًا: الكشافة:
ولها دور بارز ومهم في نحت وتحديد شخصية الطفل، فتستطيع أن تخرج من بين عشرات الأطفال أولئك الذين تدربوا في الكشافة، تجد لديهم مستويات مختلفة من تحمل المسئولية، واتخاذ القرارات، فهي بيئة أكثر جلدًا من بيئة الأسرة والنادي والعمل التطوعي، يتدرب فيها الطفل على تخطي الصعوبات في رعاية الكبار، فالقادة في الكشافة يتعمدون تقديم الصعوبات بشكل منهجي مناسب لكل مرحلة عمرية وذلك بقصد رفع كفاءة الأبناء.
خامسًا: مرحلة المهنة:
وتكون في عمر الخامسة عشر، لا شك أنه كلما أتقنا تدريب أبنائنا في المستويات السابقة؛ انطلقوا إلى محراب العمل وشخصياتهم أكثر نضجا وقدراتهم على اتخاذ القرارات في الاختيار بين بدائل العمل التي تناسب مهاراتهم ووقتهم والتوفيق ما بين العمل والدراسة أصبحت أفضل، وسيتعرضون في تلك المرحلة لمجموعة من القرارات التي تؤخذ بوعي ونضج ولها تبعات، نشجعهم على تخطي الصعاب ونثمن خطوات الأبناء، ونكون لهم كالظل أينما احتاجوا إلى مساندتنا وجدونا بجانبهم.
أما التربية غير المباشرة؛ فنعني بها التربية بالقدوة، أي تقدمين لأبنائك نموذجا عمليا في ممارسة مهارة اتخاذ القرار، فلا تبدأي شيئًا إلا بعد استخارة واستشارة، تستشيري الأبناء أنفسهم كما تستشيري الأهل والرفاق فيتعلمون أنه ما خاب من استشار، وأن لرأيهم قيمة، وأنهم قادرون على الاختيار، وكلما كان الأمر والقرار هامًا؛ فليكن دأبك صلاة ركعتي قضاء الحاجة وإرشاد الأبناء إلى أدائها دومًا.
ومن الأدعية المأثورة في صلاة الحاجة، ما رواه الترمذي وابن ماجه عن عبد الله بن أبي أوفى- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: (من كانت له حاجة إلى الله تعالى أو إلى أحد من بنى آدم فليتوضأ وليحسن وضوءه ثم ليصل ركعتين ثم ليثن على الله تعالى ويصل على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل: (لا إله إلا الله الحليم الكريم سبحان الله رب العرش العظيم الحمد لله رب العالمين. أسالك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والعصمة من كل ذنب والغنيمة من كل بر والسلامة من كل إثم لا تدع لي ذنباً إلا غفرته ولا هما إلا فرجته ولا حاجة هي لك رضا إلا قضيتها يا أرحم الراحمين)، فيتعلم الأبناء اللجوء للملك.
وإذا كان الأمر المقدمون عليه ذي بال، فلنعلمهم صلاة الاستخارة والدعاء الذي رواه البخاري عن جابر- رضي الله عنه- ولفظه: “اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر (ويسمي حاجته فيقول مثلاً هذا السفر) خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر (السفر أو الزواج) شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به”.
يأتي بعد ذلك دور الحوار مع الأبناء في كيفية تيسير الله للأمر ببركة صلاة الاستخارة أو أداء ركعتي قضاء الحاجة؛ فإن رأوا منك تسليمًا ورضًى وإن لم تُقضَ حاجتُك؛ سيدركون مع تكرار المواقف أن المؤمن يرى أمره كله خيرًا، تفتح له أبواب فيحمد الله على التوفيق، وتوصد في وجهه أبواب فيكن على يقين أن هذا هو الخير، حينما تتحدثين مع الأبناء بهذه اللهجة وهذا اليقين، يتعلمون أن أمورهم كلها بيد الله، فيحسنون اللجوء إليه دائما ويعلمون أنهم ما وفقوا في قراراتهم إلا بتيسير من الله.
كما أنه من المهم إرشادهم على عدم الندم على تبعات اختياراتهم طالما استخاروا، فيقينا الخير فيما قدر الله وإن رأوا عكس ذلك، ولنا في قصة موسى والخضر ما يؤسس لهذا المعنى.
وأخيرًا ثمة أشياء تهدم التدريب على المسئولية واتخاذ القرار فاحذري الوقوع فيها:
- القرارات المالية الخاصة بمصروف الطفل يجب أن تحترم، نوجهه ونساعده ولا نعاقبه بالحرمان من المصروف فالمصروف هو بوابة كبيرة لتعلم كيفية اتخاذ القرار.
- التوقف عن عمليات التدخل السريع ولعب دور المنقذ بديلا عن أبنائك، دعيهم يواجهون وكوني في ظهرهم إذا لم يحسنوا التصرف قدمي لهم يد العون.
- اغرسي فيهم أن الكلمة مسئولية فلا تخلفي وعدك معهم مهما حصل، وإلا عليك بتوضيح الأسباب حتى يتعلموا أن العدول عن القرارات الخاصة بالآخرين يجب أن تكون بسبب وعليهم توضيحه.
- لا تصنفي طفلك أبدًا بأنه متردد ولا يأخذ قرارًا في أبسط الأشياء، فالكلمات السلبية تهدم ولا تبني.
- تجنب العشوائية في حياتكم، فالعشوائية تؤدي إلى قرارات خاطئة بينما تعلم التخطيط والتهيئة للأمر حسب أهميته أمر ضروري.
- يستتبع التخطيط التقييم حتى تتجاوزوا الأخطاء في المرات القادمة، فالتقييم لا يقل أهمية أبدًا عن التخطيط.
وختامًا.. نسأل الله التوفيق لنا ولكِ ولأبنائنا جميعًا، فأخذنا بالأسباب واجب، والتوفيق من الله منة وفضلًا، فسؤاله التوفيق في كل قرار هو عين العبودية والافتقار للخالق، فلا نركن للأسباب أبدًا: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ}، هذا دينٌ وديدن.