ابني بلغ السابعة من عمره، ورغم التحاقه بالمدرسة إلا أنه يرتبط بي ارتباطًا شديدًا يزعجني، وإذا خرجت لقضاء مصالح أو مشاوير أو عمل فإنه يبقى منزعجًا إلى حين عودتي، علمًا بأن ذهابه للحضانة في السنوات السابقة كان فيه معاناة شديدة بالنسبة له ولنا؛ لأنه كان يُبقي نفسه منعزلًا عن الفصل ويهرب إلى النوم في الفصل حتى يعود فيلتصق بي ولا يريد أن يتركني، فهل هذا طبيعي، وكيف يتحقق استقلاله عني مثل كل الأطفال دون أن يحزن أو ينكسر؟
يعد التعلق أمرًا طبيعيًا ومهمًا في سنيِّ نمو الطفل الأولى؛ فتعلق الطفل بأمه أساسي لتلبية احتياجاته من غذاء وكساء وأمان ونحوه.
يخف التعلق تدريجيًا كلما كبر الطفل واعتمد على نفسه في قضاء حوائجه الأساسية، فطفل ما بين عمر الثانية والرابعة يكون أيضا متعلقا ولكن بدرجة أقل، حتى تبدأ الأم في تعريفه بالبيئة المحيطة به وتركه أحيانا مع أبيه أو إخوته، فيخف حينها الارتباط بالأم بشكل تدريجي وتدربه على ذلك الأم بنفسها.
حيث تعقد مع الطفل اتفاقًا أنها ستتركه لقضاء مصلحة، وتخبره وتخبر الجالس معه عن مكان احتياجاته، ويفضل أن تتصل به وهي بالخارج عن طريق المكالمات المرئية لتبث الطمأنينة لديه، وتحضر بعض الحلوى حين عودتها لتفعيل ارتباط شرطي إيجابي بربط خروج الأم وابتعادها عن ابنها بنتائج محببة.
فإذا كان التمهيد لفك تعلق الطفل قد تم بشكل هادئ مدروس، يضع حاجة الطفل ونفسيته نصب عين والديه، من المفترض حينها ألا يحدث استمرار للتعلق حتى هذا العمر.
وحيث إن ابنك ابن السابعة وما زال يعاني من التعلق الزائد بكم، فلا بد من مراجعة الأسباب التي قد تكون هددت استقراره النفسي، ومراجعة تجارب الانفصال التي من الممكن أن يكون قد تعرض لها.
وإليكِ مجموعة من الأسباب التي ربما كان أحدها السبب، حتى يمكننا تحديد كيفية العلاج.
أسباب التعلق الزائد:
- تعرض الطفل في سنواته الأولى لارتباط غير آمن من مقدم الرعاية الأساسي (الأم/الجدة…) كتركه يبكي بشدة دون النظر لحاجته وسبب بكائه.
وينصح بعض المحيطين بالأم عدم حمل الطفل كثيرًا حتى تستطيع أداء مهامها، فتقصر في احتضان الطفل بدعوى ألا يعتاد على حمله ويعطلها، بل يسرف البعض في النصح بترك الطفل يبكي طالما أنه أكل وشرب، فينام الطفل من فرط البكاء بعيدًا عن أحضان أمه.
لنا أن نتخيل نتائج تلك التصرفات على نفسية الطفل، هي نصائح ليست في محلها ولا تصب في مصلحة الأم ولا مصلحة الطفل، وقد يمتد أثر هذه التصرفات على نفسية الطفل أمدًا طويلًا، فالرحمة والحنان لا يُفهمان أبدًا على أنهما تدليل، التدليل معروف للجميع، بينما الرحمة في حق الصغير واجبة، فمن له إن لم تكن له أمه! - قد يتعرض الطفل لتجربة انفصال صادمة، كسفر الأم المفاجئ للعمل أو لأي سبب، بغير تمهيد، فيشعر بالغدر مع كل فراق للأم، فلا يفرق بين مشوار بسيط، وسفر طويل، لأنه خَبَرَ الأسوأ.
- التلاعب بمشاعر الطفل على سبيل المزاح، كالتهديد بتركه واختبار ردود أفعاله ورؤيته وهو يبكي! يفعل الكبار هذا بالفعل، ولا يتخيلون أثر تصرفهم على نفسية أبنائهم!
- الخوف الزائد على الطفل، وإظهار القلق عليه بشكل مبالغ فيه، فينتقل هذا القلق والخوف للطفل ولا يشعر بالأمان إلا في حال الالتصاق بالأهل، كالأهل الذين أنجبوا بعد فترة، يفعلون ذلك خوفًا من فقد الطفل.
- التدليل الزائد، فالشيء وعكسه في حدي معادلة التربية يأتي بنفس النتائج، الحل في الوسطية.
- انعدام دور الأب مع الطفل فلا يرى غير الأم بديلا، كذلك وجود الأب في حياة الطفل لكن يتعامل بعصبية مما يزيد من التصاق الطفل بأمه.
- سفر الأسرة وتآكل الحياة الاجتماعية لديها، وغياب دور العائلة، فيجد الطفل نفسه محاطًا بالأغراب طول الوقت، فيزداد تعلقه بأمه، كما يرى بعض علماء النفس أن مشكلة التعلق يمكن اختصارها في ثلاثة أسباب:
- اضطرابات هرمونية.
- مشاهدة محتويات أو مواقف تعزز من خوف الطفل من الانفصال عن أمه، ومن ضمن تلك المشاهدات (الأحلام)، فقد يرى الطفل حلما مزعجا؛ فكما يعيشن الأطفال حياة مادية، حياة مبنية على مقدمات ونتائج، مثل حياة الكبار، أيضا لهم عالمهم من الأحلام والخيالات، وهنا يأتي دورنا في إرشادهم لكيفية التصرف الصحيح إذا ما رأوا حلمًا مخيفًا:
- فنعلمه أنه من الشيطان ولن يضر.
- وأن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم.
- ويتفل على يده اليسرى ثلاث مرات.
- ولا يحكيه لأحد.
- والسبب الثالث: الأسباب الوراثية؛ فبعض العائلات ترث مخاوف أبًا عن جد، فنجد أن عائلات بأكملها تخاف من القطط مثلًا، أو ركوب الطائرات أو كما في حالتكِ، تخاف من الانفصال، فربما لو عدت بالذاكرة للوراء تجدين أنك أو أبيه عانيتم مما يعاني منه ولدك، وأنكم بغير قصد ساهمتم في إحداث تلك الحالة، فمخاوفنا القديمة نحتاج لمواجهتها وعدم دفنها، لأننا مهما أنكرنا وجودها، يومًا ما ستظهر ويظهر أثرها فينا أو في أبنائنا!
هنا نتذكر قصة أم موسى- عليه السلام- حينما خاطبها ربها: {… فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي …}، أي توكلي على الله الحافظ.
فكيف كانت أول تجربة انفصال بينك وبينه؟! إذا ما انزعجنا بشدة، انتقل ذلك بلا شك لأبنائنا،وإذا لم نحسن التمهيد، ستحدث صدمة في الفراق.
تحكي إحدى المعلمات عن تجربة قاسية تعرضت لها؛ حيث أتت طفلة للمدرسة في أول يوم دراسي تبكي بكاءً شديدًا، وحينما تكلمت المعلمة مع الطفلة علمت أنها حضرت للمدرسة مع إخوتها الكبار في الحافلة الخاصة بالمدرسة، بلا أم وبلا أب! فعلت معها المعلمة المستحيل كي تهدأ، ظلت هكذا أسبوعًا كاملًا، تبكي بشدة، هدأ جميع الأطفال الباكون مثلها ولم تهدأ أبدًا.
حتى راوغت المعلمة وطلبت الذهاب لقضاء حاجتها وغافلت الجميع وخرجت خارج أسوار المدرسة لا تلوي على أحد، حتى استأخرت رجوعها المدرسة، وفوجئ الجميع بتلك المصيبة!
هذه الطفلة ربما لأول مرة تبتعد عن أمها فكان الابتعاد بذلك الشكل القاسي، بلا تمهيد مناسب، أبسط وسائله، هدية بسيطة، وتوديع الطفل على باب فصله أو مدرسته، وبث الطمأنينة في نفسه، حتى لا تكون أول تجارب الانفصال قاسية هكذا، فيلجأ الطفل لمزيد من الالتصاق بأمه بدلًا من أن يكبر مستقلًا، إذًا فما العلاج؟!
- أولًا: نتأكد أننا كأهل ليس لدينا مخاوف نكررها قهرًا (أي بغير أن نشعر) مع أبنائنا، ونتذكر أننا مجرد أسباب في حياة أبنائنا، والله وحده هو الحافظ من كل سوء ومكروه.
- لا تظهري قلقك على طفلك، وعوديه الاستقلال تدريجيًا، استودعيه الله في دعائك وصلاتك، علميه التوكل على الله، فليردد وهو خارج من المنزل: بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
- قللي من التحذيرات التي تخيفه من العالم الخارجي، فأحيانًا من فرط خوفنا عليهم نظل نردد لهم الوصايا العشر في كل مرة حتى يغيبوا عن أعيننا، فيكفي التنبيه على المحاذير كل فترة، ولا داعي لترديدها كل مرة.
- التعامل بحزم وحنان مع كل موقف فيه التصاق زائد بك، فيكفي على سبيل المثال أن تحتضنيه حضنًا سريعًا قبل نومه، وتشيري بحزم أن يذهب لسريره بمفرده وأنك ستمرين عليه بعد قليل، وطالما وعدتِ فلا تُخلفي، مُري عليه، وبُثي في قلبه الطمأنينة.
- كرري الحزم مع الحنان في شتى المواقف حتى تكون الرسالة واضحة.
- احتوي طفلك، عبري عن حبك له، شاركيه اهتماماته، عززي ثقته بنفسه بتشجيع خطواته في الاستقلال والانطلاق بعيدًا عنكِ.
- دربيه على شغل وقته في المنزل، بتجهيز أنشطة لا يحتاج لمشاركتك فيها.
- طفل السابعة يستطيع التعبير عما يقلقه، فتحدثي معه عن مخاوفه، وفنديها ولا تنكريها عليه، اشعريه بالأمان ولا تسخري من أسبابه.
قد ينظر البعض إلى تلك المشكلة على أنها مشكلة بسيطة، وهي بالفعل كذلك طالما وضعنا أيدينا على أسبابها وبدأنا في علاج الأمر وتداركه، أما تجاهل المشكلة والارتكان إلى أنه بمضي الوقت سينصلح ما فسد؛ يجعلنا نعرج على أمر هام.
ثمة اضطراب يعرف باضطراب التعلق التفاعلي (RAD)، فحصه بعض علماء النفس باختبار ترك الطفل مع المختبرين في غياب الأم، ثم إلتقاء الأطفال بأمهاتهم وتسجيل ردود أفعالهم، فوجدوا أن الأطفال الذين تمتعوا بتعلق آمن في بداية حياتهم، قابلوا أمهاتهم بالأحضان، بينما الذين تعرضوا لخبرات انفصال عن الأم سيئة، قابلوا أمهاتهم بنوبات من الغضب بضرب أمهاتهم، وكأنهم يقولون لم تركتينا ثانية؟!
إذًا، بعض الحالات لديها اضطراب حقيقي له آثاره الأبعد مستقبليًا إذا تم تجاهلها.
تحكي إحدى الفتيات البالغات، أن برغم حبها الشديد لأمها منذ الصغر إلا أنها لم تحطها بالحنان الذي ترجوه نتيجة انشغال الأم في جلب لقمة العيش بعد وفاة الأب، وأنها كانت تنتظر من أمها الاحتضان حتى أن هذا الاحتياج كان يطاردها في أحلامها، تجري وراء أمها لتحتضنها ثم إذا ما دنت منها، استيقظت ولم تحتضنها، فتستيقظ فزعة!
تقول هذه الفتاة أنها كانت لا تشعر بالاستحقاق في أن تحب وتحب، حتى قابلت أول شخص شعرت نحوه بالعوض، أقبلت عليه قلبًا لا عقلا، وانتهت التجربة في محاكم الأسرة.
فالأم أعانها الله، كانت حاضرة بشكل قوي في حياة ابنتها، وتحظى بحب حقيقي من ابنتها لكنها لم تشبع من أمها عاطفيا (تعلق ناقص غير آمن).
تحذر نتائج تلك الأبحاث التي تتحدث عن اضطراب التعلق التفاعلي من نتائج مثل:
- عدم اقتصار الأثر السلبي على المراحل العمرية المبكرة، فيؤدي التعلق غير الفعّال أو غير الآمن في وقت مبكر من الحياة إلى حدوث مشكلات في التعلق لاحقا ومواجهة صعوبة في تكوين العلاقات طوال الحياة، كما يمكن أن يؤدي إلى اضطرابات في النمو الاجتماعي والعاطفي.
- يكون لدى معظم من تعرضوا لتعلق غير آمن، رغبة قوية في التحكم في بيئتهم واتخاذ قراراتهم بأنفسهم، ويكون لديهم مشكلات في الغضب والسيطرة، ويواجهون صعوبة في إظهار العاطفة.
إذًا، فلننتبه إلى توصيف المشكلة حتى نحلها بشكل جيد، ونتفادى آثارها بعيدة الأمد، ونوصي الأم التي تعاني من التعلق ابنها الزائد بها، أن يكون لها نصيبًا من الوسائل الروحية والمادية التي تخفف بها الضغط الحاصل عليها، حتى تستطيع علاج المشكلة بأخف الأضرار النفسية عليها.
أعان الله كل أم تواجه أعباءً على أعبائها، يجزيها الله الجزاء الأوفى، فكلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته.