حرص الإسلام على تسلية أهل المصائب والمحن، واعتبر البلاء امتحان للعبد، وهي علامة حب من الله له؛ إذ هي كالدواء، فإنَّه وإن كان مُرًّا إلا أنَّك تقدمه على مرارته، ونزول البلاء خيرٌ للمؤمن من أن يُدَّخر له العقاب في الآخرة، وكيف لا وفيه تُرفع درجاته وتكفر سيئاته.
والحياة الدنيا لا تسير أبدًا في خطٍ مستقيمٍ فهي لا تصفو لأحد فالمشقة والشدائد والمصائب والبلايا ضيفٌ لا بد منه فيها، فهي سنة الله التي لا تتبدل مع عباده ووسيلةً لتصفية نفوس النَّاس ومعرفة الصَّادقين من المنافقين، لأنَّ المرء قد لا يتبيَّن في أوقات الرَّخاء لكنه يتبيَّن في أوقات الشِّدَّة.
ذكر أهل المصائب في القرآن والسنة
والدنيا طافحة بالأنكاد والأكدار، مطبوعة على المشاق والأهوال، والعوارض والمحن، لكن ديننا الحيف لم يترك أهل المصائب والمحن دون تسلية؛ فقد ورد ذكر المصيبة وعلاجها في القرآن الكريم، من ذلك قوله تعالى: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) [البقرة: 156]، وقال سبحانه: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران: 165].
وقال سبحانه: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى: 30]، وقال تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) [الحديد: 22].
وجاء في السنة النبوية، عن عروة بن الزبير، أن عائشة- رضي الله عنها- زوج النبي- صلى الله عليه وسلم- قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفَّر الله بها عنه، حتى الشوكة يشاكها” (البخاري).
وعن أم سلمة أنها قالت: سمعتُ رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، يقول: “ما من مسلم تصيبه مصيبةٌ، فيقول ما أمره الله: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) [البقرة: 156]، اللهم أجرني في مصيبتي، واخلف لي خيرًا منها، إلا أخلف الله له خيرًا منها”، قالت: فلما مات أبو سلمة، قلت: أي المسلمين خيرٌ من أبي سلمة؟ أول بيت هاجر إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ثم إني قلتها، فأخلف الله لي رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، قالت: أرسل إليَّ رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم- حاطب بن أبي بلتعة يخطبني له، فقلت: إن لي بنتًا وأنا غيورٌ، فقال: “أما ابنتها فندعو الله أن يغنيها عنها، وأدعو الله أن يذهب بالغيرة” (مسلم).
ماذا يقول أهل المصائب؟
- وجاء في تسلية أهل المصائب بالعلاج الإلهي آيات كثيرة، منها قوله تعالى: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) [البقرة: 155–156].
- وجاء في العلاج النبوي، قوله- صلى الله عليه وسلم-: “ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله به: {إنا لله وإنا إليه راجعون} [البقرة: 156]، اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها، إلا آجره الله في مصيبته وأخلف الله له خيرا منها” (مسلم).
- ومن تسلية أهل البلاء أن ينظر المصاب في كتاب الله وسنة رسول الله، فيجد أن الله تعالى أعطى- لمن صبر ورضي- ما هو أعظم من فوات تلك المصيبة بأضعاف مضاعفة، وأنه لو شاء لجعلها أعظم مما هي.
- وعلى المصاب أن ينظر بعين بصيرته، فيعلم أنّ مرارة الدنيا قد تكون حلاوة في الآخرة، وحلاوة الدنيا قد تكون مرارة في الآخرة، ولأن ينتقل من مرارة منقطعة إلى حلاوة دائمة، خير من عكس ذلك.
- وعلى المبتلى أن يستعين بالله ويتوكل عليه، ويمتثل أمره في الاستعانة بالصبر والصلاة، ويعلم أن الله مع الصابرين، ويطلب استنجاز ما وعد الله به عباده على الصبر.
- وعليه أن ينظر ويفرق بين أعظم اللذتين والتمتعين: تمتع الحياة الدنيا الفانية، وتمتع الدار الآخرة الباقية، وأدومهما لذة وتمتعا بما أصيب به، ولذة تمتعه بثواب الله له على قوله وفعله من استرجاع وصبر ونحوه، فإن ظهر له الرجحان، فآثر الراجح، فليحمد الله على توفيقه له، وإن آثر المرجوح من كل وجه، فليعلم أن مصيبته في عقله وقلبه ودينه، أعظم من مصيبته التي أصيب بها في دنياه.
- ومن المهم أن يصبر أهل البلاء، فعن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له” (مسلم).
- وعليه أن يعلم أن فوات ثواب الصبر والتسليم وهو الصلاة والرحمة والهداية التي ضمنها الله على الصبر والاسترجاع أعظم من المصيبة في الحقيقة.
- وعليه أن يعلم أن الجزع يشمت عدوه، ويسوء صديقه، ويغضب ربه، ويسر شيطانه، ويحبط أجره، ويضعف نفسه، وإذا صبر واحتسب وأرضى ربه، وسر صديقه، وساء عدوه، وحمل عن إخوانه وعزاهم هو قبل أن يعزوه، فهذا هو الثبات والكمال الأعظم .
- وأن يعلم أن الذي ابتلاه بها أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وأنه سبحانه لم يرسل إليه البلاء ليهلكه به، ولا ليعذبه به، ولا ليجتاحه، وإنما افتقده به ليمتحن صبره ورضاه عنه وإيمانه وليسمع تضرعه وابتهاله، وليراه طريحًا ببابه، لائذًا بجنابه، مكسور القلب بين يديه، رافعًا قصص الشكوى إليه.
- والرضا علاج لأهل البلاء، يقول النبي- صلى الله عليه وسلم-: “إن عِظَم الجزاء من عِظَم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط” (الترمذي وابن ماجه). ويقول أيضًا: “لا يتمنى أحدكم الموت لضر أصابه، إما محسنًا فلعله أن يزداد خيراً، وإما مسيئاً فلعله أن يستعتب” (البخاري).
- وعلى المبتلى أن يطمئن ولا يحزن، فإﺫﺍ حرمه ﺍﻟﻠﻪ ﻣﺎ يحب فلا يحزن ويذكر أﻥ ﺍﻟﻠﻪ تعالى ﻗﺎﻝ: (وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة: 216].
- وأن يستعين بالله، فعن أبي هريرة- رضي اللَّه عنه- قال: قال رسولُ اللَّه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم-: “المُؤمِن الْقَوِيُّ خيرٌ وَأَحبُّ إِلى اللَّهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وفي كُلٍّ خيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا ينْفَعُكَ، واسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجَزْ، وإنْ أصابَك شيءٌ فلاَ تقلْ: لَوْ أَنِّي فَعلْتُ كانَ كَذَا وَكذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قدَّرَ اللَّهُ، ومَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَان”، (مسلم).
- وأن يطفئ نار مصيبته ببرد التأسي بأهل البلاء، ولينظر يمنة فهل يرى إلا محنة، ثم ليعطف يسرة فهل يرى إلا حسرة؟ وأنه لو فتَّش العالم لم ير فيهم إلا مبتلى، إما بفوات محبوب، أو حصول مكروه، وأن شرور الدنيا أحلام نوم، أو كظل زائل، إن أضحكت قليلاً أبكت كثيرا، وإن سرَّت يوماً ساءت دهرا، وإن متَّعت قليلاً منعت طويلا، ولا سرته بيوم سروره إلا خبأت له يوم شرور.
- وأن يعلم المبتلى أن الجزع لا يرد المصيبة، بل يضاعفها، وهو في الحقيقة من تزايد المرض.
إن هذه الدنيا الفانية تُجمَّل بالصبر وتُحلّ بالرضا؛ فعلى المسلم أن يثِق بمشيئة الله وحكمته وسعة رحمته وبعظيم عدله والالتجاء إليه وأنه ليس عيبًا أن يلجأ الإنسان إلى الله عند ضائقة حلّت به، إنما العيب أن يقطع الحبل الذي بينه وبين الله حين يُذهبْ عنه البلاء وتحلّ عليه الرَّحمةُ.
مصادر ومراجع:
- عبدالمحسن بن محمد القاسم: إلى أهل المصائب والأحزان.
- المنبجي: تسلية أهل المصائب، ص 14- 21.
- عائض القرني: لا تحزن – إلى أهلِ المصائبِ.
- بشير بادي: كيف نتعامل مع المصائب التي نواجهها؟
- ابن القيم: الوابل الصيب، ص 110.