الاستشارة
أنا أم وزوجة لدي ثلاثة من الأبناء، في بداية زواجي تفرغت تماما لتربيتهم، كان زوجي يساعدني بعض الشيء حسب وقته وجهده، ومع موجات الغلاء المتزايدة اضطررت للنزول إلى العمل، كما اضطر زوجي للعمل في أكثر من وظيفة لسد احتياجاتنا، ومع الأسف أصبح الوقت الذي أقضيه مع أبنائي قليلًا جدًا، كما أصبحت غير صافية الذهن لهم كما في السابق، فما نصائحكم لإقامة علاقات صحية مع أبنائنا في ظل أوقات العمل المزدحمة؟!
الرد
السائلة الكريمة: أعانك الله وأعان زوجك على تحصيل الرزق الحلال لكم ولأبنائكم، وتحقيق التوازن بين واجبات العمل وواجباتكم كرعاة مكلفين شرعًا برعاية أبنائكم، فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته.
وكما يحرص الآباء أشد الحرص على تلبية احتياجات أبنائهم من مأكل وملبس ومشرب، كذلك يجب أن يكونوا حريصين أشد الحرص على قضاء وقت جيد ممتع مع أبنائهم كما تفضلتم في سؤالكم عن كيفية تحقيق هذا التوازن.
البداية تكون من قاعدة الأسرة وأساسها المتين (الأم والأب)، فحينما نعمل على تحسين العلاقة بين رَبَّيِ الأسرة، ينعكس ذلك على الأبناء بشكل مباشر، فحرص كلا الزوجين على تحسين علاقتهما بعضهما البعض هو اللبنة الأولى لبناء أسرة سعيدة.
فكيف يتحقق ذلك:
- بتجديد نيتنا في إقامة أسرة مسلمة وفق المنهج الرباني الذي جعل أساس العلاقة بين الزوجين (المودة والرحمة): {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.
- تذكر أن الأسرة المسلمة هي (نواة المجتمع)، فمجهود الأهل مع الأبناء، يصب في صالح بناء أمة قوية مما يهون الصعب.
- الاتفاق على شكل إدارة الحياة داخل مؤسسة الأسرة وتوزيع الأدوار على جميع أفرادها.
- قد يكون خروج المرأة للعمل ضرورة ملحة في بعض الأحوال، لكن هذا لا يُنسي المرأة دورها الأول في بيتها ورعاية زوجها وأبنائها، فلتحرصي على اختيار نوعية من الأعمال تحقق لك هذا التوازن.
- على الزوج ألا ينسى أنه المسئول الأول على الإنفاق على أسرته، ومن ثم عليه أن يثمن خروج زوجته لمساعدته، كما عليه أن يحرص أشد الحرص على التعاون معها في توزيع الأدوار داخل وخارج المنزل، فبناء المرأة الجسدي وطبيعة خلقتها لا يجعل أكثر النساء يستطعن الجمع بين مهام البيت والعمل بشكل لا يحدث خللًا في المنزل، فغالبًا ما تحتاج الزوجة لمساعدة من أفراد الأسرة أو من عاملات بالمنزل، والاتفاق على هذه النقطة يقلل من حدوث مشكلات في المستقبل.
- الحرص أشد الحرص على قضاء أوقات معًا بعيدًا عن التحدث في مشاكل البيت و العمل، فيجب على الزوجين احترام وقت الإجازات وعدم شغلها بجداول العمل.
- على الزوجة التحضير لتلك الأوقات بشكل جيد، واستغلالها للترويح عن النفس، وليحرص الرجال أيضًا على فن- قليل منهم من يتقنه- وهو فن تحضير المفاجآت والترتيب للفسح والنزهات، فبينما تسعد الزوجة بإدخالها السرور على أهل بيتها، تحب هي الآخرى أن يتعب الزوج لأجل إسعادها “فاستوصوا بالنساء خيرًا”، كما وصى الحبيب المصطفى- صلى الله عليه وسلم.
- تخصيص وقت للاجتماع على الطاعة هو أمر فارق في تحسين العلاقة بين الزوجين، كالاجتماع على بر الأهل، والمساهمة في بعض الأعمال التطوعية، أو الاستماع لبرامج دينية، أو حفظ القرآن أو مراجعته معًا، متذكرين حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم: “ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده”، والاجتماع على الطاعة يجلب السكينة ويجعل الرحمة تغشى بيوتنا، فلا نبخل على أنفسنا بالاجتماع على الطاعة ثم نشتكي قلة البركة.
- الإجازات مهمة كما أن أوقات العمل مهمة، فاشحنوا وجددوا طاقتكم بحسن التخطيط لهذه الأوقات.
- توحيد الرؤية في التربية والاستناد إلى مراجع يتفق كل منكم عليها أمر في غاية الأهمية، لم ولن يحدث أن يتطابق زوجان في رأيهما، لكن تحديد المسئوليات يجعل كل طرف يحترم اجتهادات الطرف الآخر في الأمر الموكل إليه، فإذا أسند الملف التعليمي للزوج مثلًا، فعلى الزوجة أن تحترم قراراته، وإذا لم يتفقا فليكن النقاش بعيدًا عن أعين الأبناء.
هذه بعض الأسس التي تجعل العلاقة بين الزوجين في مستوى جيد معظم الوقت، حتى وقت الخلاف إذا ما أدير باحترام نتج عن ذلك بيت مستقر، يقوده زوجان متفاهمان، يستطيعان تعويض أبنائهما عن فترات غيابهم عن المنزل نتيجة لضغوط العمل، وإليكِ بعض النقاط الهامة التي تعينك وزوجك على الوصول بالأبناء لعلاقة صحية رغم ضغوطات العمل:
- إرساء مفهوم الأسرة، والذي يعني تكاتف الجميع معًا (أب، وأم، وأبناء) لإنجاح مشروع الأسرة، يستتبع معرفة هذا المفهوم توزيع الأدوار حسب سن الأبناء وقدراتهم، فإن حمل الأب والأم عبء هذا المشروع على كاهلهم فقط أمر مرهق، يجعل الأهل ساخطين على أبنائهم؛ ينتقلون من ضغوط العمل إلى ضغوط البيت، بينما معرفة كل واحد في البيت للدور الموكل إليه يجعل الكل في تفاهم.
- ينصح بعدم نقل تفاصيل العمل إلى المنزل، إلا في الضرورة القصوى، لأن تداخل مهام العمل مع مهام المنزل، يزيد من الضغوط العصبية على الأهل، مما يرشحهم لانتكاسات في مستوى العلاقات مع أبنائهم، أبلغي رئيسك في العمل بذلك من غير حرج، أن ساعات العمل نهايتها وقت العمل.
- كما نشتكي من علاقة أبنائنا بالهاتف وسوء استخدامهم له، نقع نحن الكبار في نفس المشكلة، ونستغرق ساعات طوال لمتابعة أشياء هامة وأشياء غير هامة، ينصح إذا كان عملك يستدعي إمساك الهاتف، فلتجعلي له وقتًا محددًا، كما يساعدك تخصيص هاتف للعمل وهاتف للبيت على فعل ذلك.
- ليست الفكرة في كم الوقت الذي تقضونه مع الأبناء، بقدر جودة هذا الوقت، فتستمعين إليهم جيدًا، وتلعبين مع الصغير منهم، و تشاركين أبناءك بعض هموم العمل التي يستطيعون فهمها حتى لا يظنوا أن العالم وردي من جهة، وفي نفس الوقت ينصح بعدم إدخالهم في المشكلات الكبيرة حتى لا يصير لديهم عقدة من العمل، فأغلب الأبناء يمتهنون مهنًا تشبه مهن أهليهم، فكوني بوابة خير لهم بنقل صورة واقعية بقدر سنهم وما يدركونه.
- احرصي على تثبيت وقت لاجتماع العائلة، لا يتغيب عنه أحد، تبدأونه بتلاوة سورة الكهف يوم الجمعة على سبيل المثال، وتناول وجبة الفطور معًا، ثم تجاذب أطراف الحديث عن أخبارهم الأسبوعية، احرصي أن تكون هذه الجلسة خالية من الأوامر والنقاشات الحادة، نوعي بين الأنشطة المختلفة من عمل مسابقات ومشاهدة فيلم معًا.
- كما أن للهاتف مضار كثيرة اجتماعيًا، لا ننكر فوائده، فكم قرب المسافات من أناس بينهم أميال وأميال، فأصبح جروب الأسرة على برنامج الواتساب أو غيره من وسائل التواصل متنفسًا للتواصل الفعال مع الأبناء، فاحرصي على أن يكون مليئًا بالذكريات الجميلة بينكم، يتصفحها الأبناء كلما أمسكوه، فيشعرون أن هذا الجروب مستراح لهم وبالتالي يرون الانتماء للعائلة شيء يستحق مزيدًا من التعاون والتضحية.
- تعد الاتفاقات المسبقة مع الأبناء وجداول المهام إحدى الطرق الفعالة لمتابعة شئون الأبناء أثناء ضغوط العمل، يحكي أحد الآباء تجربته في متابعة الأبناء برغم ضغوط العمل الكثيرة أنه خطط لأبنائه كراسة للمتابعة، تحمل جدولًا للأعمال اليومية الموكلة لأبنائه، وعند عودته من العمل يتابع يومهم من خلال تلك الكراسة، وسيلة اختصرت متابعة ساعات يومهم الطويلة في دقائق معدودة، لم يمنع الانشغال الشديد للأب من ممارسة دوره ولو من بعيد، فقط أخلصوا النوايا ترشدوا الحيل.
- على حسب ظروف الأسرة قوموا بتثبيت نزهة مرة في الشهر، نزهة في أبسط صورها حتى يمكنكم تكرارها كثيرًا، فالخروج عن الإطار اليومي المعتاد كل فترة، يجدد الأواصر، ويحيي النفوس، ويشعل الهمم لمزيد من التعاون والشعور بالانتماء الحقيقي للأسرة.
- من المهم ترك وسيلة آمنة لوصول الأبناء لكم عند الضرورة فترة غيابكم عنهم في العمل، حتى لا تحدث هزات نفسية إذا ما تعرضوا لمواقف ولم يجدوكم بجانبهم لا قدر الله.
- استثمار مناسبات الأبناء في خلق أجواء مفرحة بالبيت، كالنجاح واجتياز مهارة معينة، والاحتفال بأيام ميلادهم، ليس بالشكل المعهود لدى العامة، بل بالاجتماع على مأدبة على شرف صاحب المناسبة، وجعل الحديث يدور عنه، كذكر مميزاته، مما يقرب أفراد الأسرة من بعضهم البعض.
- الدعاء لهم، وتجديد نيتكم في الخروج إلى العمل، فساحة التنافس في الدنيا لا حد لها، وتجعل الإنسان لا يرضى مهما اكتنز، بينما تذكر أحاديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن الخلف في النفقة على الأهل، يهون ويضبط بوصلتنا فعن أبي عبد الله ويقال له أبي عبد الرحمن ثوبان بن بجدد مولى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: ” أَفْضَلُ دِينارٍ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ، دِينارٌ يُنْفِقُهُ علَى عِيالِهِ، ودِينارٌ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ علَى دابَّتِهِ في سَبيلِ اللهِ، ودِينارٌ يُنْفِقُهُ علَى أصْحابِهِ في سَبيلِ اللَّهِ”، رواه مسلم، قال النووي في شرح مسلم، أعظمها أجرًا الذي تنفقه على عيالك.
- استودعي الأبناء، فليس وجودنا معهم هو الضمان لحسن تربيتهم إنما نحن أسباب، رددي لهم كثيرًا “أن الله شاهدهم، الله ناظرهم، الله مطلع عليهم”، حتى تربي فيهم مراقبة الله، فيفعلون ما يرضيه ويتركون ما يغضبه، كان معهم الأهل أم لم يكونوا.
طيب الله أوقاتكم مع أبنائكم، ورزقكم البركة في الوقت القليل المستقطع من وسط عشرات المهام، وأعانكم على تدبير حاجتهم من غير عنت ولا مشقة.