لم يترك الإسلام أمرًا من أمور الدنيا إلا فصّله تفصيلا، حتى لا يكون للنّاسِ حُجّة على الله – سبحانه وتعالى – ولتَستقيم الحياة فتصبح مكانًا صالحًا للمهمة التي من أجلها خُلِقَ الإنسان وهي حُسن عبادة الله عز وجل.
وبقدر تمسّك العباد بما شَرَعَه الله، تستقيم حياتهم ويشِيع الحب والأُلفة بينهم، وتسمو نفُسوهم، ويسعى الجميع للتعاون فيما بينهم، وهذا بخلاف إذا انحرف العباد عن دِين ربهم ونسوا تعاليمه، وهجَروا سُنن نبيه – صلى الله عليه وسلم -، فكلّما حَدَثَ ذلك انتشرت البغضاء، وساءت الأخلاق وتبدّلت النّوايا، وضاعت أمانة المجالس بكشف ستر الآخرين، سواء في الاجتماعات أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أو من خلال تسجيل المكالمات، وتصوير اللقاءات.
قال الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله – في شرح رياض الصالحين: “الأمانة باب واسعٌ جدًّا، وأصلها أمران: أمانة في حقوق الله: وهي أمانة العبد في عبادات الله عزَّ وجلَّ. وأمانة في حقوق البشر” (1).
مفهوم أمانة المجالس
قِيل في مفهوم أمانة المجالس وكتمان الأسرار، معانٍ كثيرةٍ، فالأمَانة ضد الخيانة، وأصل الأَمْن: طمأنينة النفس وزوال الخوف، والأمانة مصدر أمن بالكسر أمانة فهو أمين، ثم استعمل المصدر في الأعيان مجازًا، فهي كلُّ حقٍّ لزمك أداؤه وحفظه (2).
وهي كما عرّفها القاضي الحنفي أبو البقاء أيوب الكفوي: كلُّ ما افترض على العباد فهو أمانة، كصلاة وزكاة وصيام وأداء دين، وأوكدها الودائع، وأوكد الودائع كتم الأسرار (3).
والسّرّ في اللّغة: اسم لما يسرّ به الإنسان أي يكتمه. يقال: سارّه إذا أوصاه بأن يسرّه. أسررت إلى فلان حديثًا: أي أفضيت إليه في خفية. قال الرّاغب رحمه الله: السّرّ: هو الحديث المُكتّم في النّفس (4).
ومعنى إفشاء السر اصطلاحًا: هو: تعمد الإفضاء بسرٍّ من شخص ائتمن عليه، في غير الأحوال التي توجب فيها الشريعة الإسلامية الإفضاء، أو تجيزه (5).
صور السر في الإسلام
للسر صور في الإسلام منها المحمود ومنها المذموم، ومن صورها المحمودة، أداء الشهادة عند القاضي لقوله تعالى: {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ} [البقرة:283]، وإفشاء الأسرار إذا أدت إلى المصلحة العامة وحماية للإسلام والمسلمين وكشف مخططات الأعداء مصداقًا لقول الله تعالى: {وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص: 20]، وأيضا كما فعل زيد بن الأرقم حينما أخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – بقول المنافقين: {لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8](6).
أما الصور المذمومة لإفشاء الأسرار وعدم حفظ أمانة المجالس فهي، إفشاء أسرار المسلمين الخاصة التي أمر الشرع بسترها: “ومَن سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَومَ القِيَامَةِ” (رواه مسلم)، وإفشاء أسرار الدولة وهي من الخيانات العظمى وتؤدي لإضعاف المسلمين وزعزعة أمن بلادهم، وإفشاء الأسرار الزوجية، وإفشاء وإعلان الذنوب التي يرتكبها: “كُلُّ أُمَّتي مُعافًى إلَّا المُجاهِرِينَ” (7).
عاقبة من يخون أمانة المجالس
ومن يخون أمانة المجالس ويكشف الأسرار، يقول عنه الحسن البصري: “إنما تُجالسوننا بالأمانة، كأنَّكم تظنُّون أنَّ الخِيانة ليست إلاَّ في الدِّينار والدِّرهم، إنَّ الخيانة أشدَّ الخيانة أنْ يُجالسنا الرجل، فنطمئن إلى جانبه، ثم ينطلق فيسعى بنا” (8).
وفي قصّة النبي – صلى الله عليه وسلم – التي ذُكِرتْ في صحيح البخاري عن اعتزاله نساءه شهرًا من أجل ذلك الحديث الذي أفشته حفصة إلى عائشة، دليل على خطورة إفشاء الأسرار إلى الغير.
بل عاقب الشّرع مَن يتسمع أسرار المسلمين ليكشفها، فقد رُوِيَ عن النبي – صلى الله عليه وسلم قوله -: “ومَنِ اسْتَمع إلى حَديثِ قَوْمٍ وهُمْ له كارِهُونَ، أوْ يَفِرُّونَ منه؛ صُبَّ في أُذُنِهِ الآنُكُ يَومَ القِيامَةِ” (البخاري) وقال الحسن البصري: إن من الخيانة أن تحدث بسر أخيك (9).
كيف حافظ الإسلام على أمانة المجالس؟
يقول الدكتور مقداد يالجن، عن أهمية أمانة المجالس وحفظ الأسرار: “تُعد المحافظة على الأسرار خاصية إنسانية في العلاقات الاجتماعية، من حيث تعامل الفرد مع الآخرين، ومع المجتمع الذي يعيش فيه، والأسرار لها أهمية كبيرة في الأمم، فهي من أعظم أسباب النجاح، وأدوم لأحوال الصلاح.
ومن هنا فرعاية الإسلام للمحافظة على الأسرار يستهدف من ورائها تكوين المجتمع الإسلامي، ووضع التشريعات الضابطة لحماية العلاقات، وتنميتها أمر لازم لدوام الحياة الاجتماعية وتقدمها من الناحية المعنوية.
ولو أُهملت المبادئ الأخلاقية والاجتماعية، وسُمح للخيانة وفشو الأسرار بالانتشار، لزالت المعاني الإنسانية، كالأمانة وكتمان الأسرار، من حياة الناس، وتحولت الحياة الاجتماعية إلى جحيم لا يُطاق” (10).
ولقد شدد الشرع الحنيف على هذه القيمة فقال الله تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27].
وقال تعالى:{ وَأَوفُوا بِالعَهدِ إنَّ العَهدَ كَانَ مَسئُولاً} [الإسراء:34].
وقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “إذا حَدَّثَ الرجلُ الحديثَ ثم التَفَتَ فهي أمانةٌ” (الترمذي). وقال: “لا إيمانَ لِمَن لا أمانةَ له، ولا دِينَ لِمن لا عهدَ له” (مسند أحمد).
أثر إفشاء الأسرار على الفرد والمجتمع
إن تداعيات إفشاء الأسرار وعدم حفظ أمانة المجالس شديدة على الفرد والمجتمع، حيث تنهار العلاقات، وتضيق الصدور، وتتألم النفوس، ويفقد الناس الثقة في بعضهم، ويدخلون في عزلة دائمة.
بل إن إفشاء أسرار المجالس ينتهك الحرمات والخصوصيات، ويؤدي إلى خراب العلاقات بين الجميع، وينشر البغضاء والحقد والغيرة.
كما يُؤدي إلى إضعاف أواصر المجتمع فيسهل اختراقه من الأعداء، ويُمكّن الرقاب، وتنتشر الحروب والمشاحنات.
يؤدي – أيضا – إلى هتك الستر وإبداء المساوئ، ويرفع قدر الجاهل، ويحطُّ من شأن العلماء والمصلحين، وتُفكّك الأسر، وتأتي بأثر سلبي على الأولاد (11).
واقع مر
واقعنا الحالى يُنذر بخطر عظيم لعدم حفظ أمانة المجالس وكشف الأسرار التي أصبحت مستباحة للجميع، وقد عرفنا عاقبة من يُفشي سرًّا في الإسلام، فيجب على المسلم الحذر من الوقوع في مثل هذا الشر، سواء بالصور التقليدية أو عبر الوسائل الحديثة.
يقول الدكتور الشيخ حجازي خليل: “إن تصوير الإنسان أو تسجيل كلامه دون أن يدري ونشره بين الناس هو انتهاك صريح للخصوصية وزرع للفتنة وسبب من أسباب الكراهية والفضيحة سواء على مستوى الفرد أو أسرته أو المجتمع، لأن في ذلك اعتداء على الحقوق الشخصية فلا يصح تصوير أَي شخص من دون إذنه، حتى لو كان من الأبناء إلا بعد استئذانه وإخباره، وأن هذا السلوك فضلًا عن مخالفته لقواعد الشرع الحنيف فهو أيضًا مُجرّم بالقانون” (12).
أخلاق السلف في المحافظة على الأسرار
لقد سار الصحابة والسلف الصالح على النهج النبوي الذي سطّره لأمته من بعده، حتى أصبحوا مثل النجوم في سماء الهداية.
فهذا حذيفة بن اليمان – رضي الله عنهما – أمين سِرِّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في المنافقين، وكان يقال له: صاحب السِّر الذي لا يعلمه أحدٌ غيره.
وهذا أبو بكر في قصته مع عمر بن الخطاب، حينما عَرَضَ عليه ابنته حفصة فلم يجبه حتى حزن عمر، لكنه أثلج صدره بنكاح رسول الله – صلى الله عليه وسلم – منها، فحينما تقابل معه أبو بكر أخبره أنه لم يجبه، لأنه علم أن النبي ذكرها، وقال له: فلم أكن لأفشِيَ سِرَّ رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم -، ولو تركَهَا رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – قَبِلتُهَا.
وأيضا قصة فاطمة بنت النبي – صلى الله عليه وسلم – حينما دخلت عليه وأزواجه عنده فسّر لها بسرّين فبكت في أحداهما وضحكت في الآخر، فلما سألتها السيدة عائشة قالت لها: ما كُنتُ لأفشي على رسولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – سِرَّهُ، فلما مات صلى الله عليه وسلم أخبرتها (13).
ضوابط للحفاظ على أسرار المجالس
لا بُد من أن يلتزم المسلم بتعاليم الشرع الحنيف والتحلي بالأخلاق القويمة والامتثال لأوامر الله ونواهيه فيما أمر به في حفظ أمانة المجالس وكتم الأسرار.
يجب أن يتحلى المسلم بالعقل الراجح، والقلب السليم، والضمير الحي، والإخلاص الذي لا تشوبه شائبة، وحسن الظن بالآخرين وعدم اتهام نواياهم، وسد باب المراء والجدال والفجور في الخصومة.
ولا يجعل الخلاف في أمرٍ سببا لإفشاء الأسرار، فالخلاف لا يعني البُغض ولا الكراهية، كما لا يبيح العِرض، ولا يحل الغيبة (14).
المصادر
- بن عثيمين: شرح رياض الصالحين، جـ2، دار الوطن للنشر، الرياض، 1426هـ، صـ463.
- محمد عبد الرؤوف المناوي: فيض القدير شرح الجامع الصغير، جـ1، دار المعرفة، بيروت، 1972، صـ288.
- الكفوي: الكليات، مؤسسة الرسالة، طـ2، بيروت، 1998، صـ269.
- الراغب الأصفهاني: معجم مفردات ألفاظ القرآن الكريم، جـ1، دار المعرفة، بيروت، صـ404.
- شريف بن أدول بن ادريس: كتمان السر وافشاؤه في الفقه الاسلامي، دار النفائس للنشر والتوزيع، عمان الأردن، 1997م، صـ20.
- صور إفشاء السر المحمود:
- صور إفشاء السر المذموم:
- أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين، جـ3، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، 2016، صـ401.
- ما حكم من يفشي الأسرار؟: 21 أبريل 2003،
- مقداد يالجن: الاتجاه الأخلاقي في الإسلام دراسة مقارنة، مكتبة الخانجي، 1973، صـ102.
- محمد عبدالرحمن صادق: أسرار المجالس وأمانتها، 20 أبريل 2017م،
- إفشاء أسرار المجالس خيانة للأمانة: 4 ديسمبر 2020،
- عبد اللطيف بن إبراهيم الحسين: المحافظة على الأسرار، 8 نوفمبر 2007،
- محمد عبدالرحمن صادق: وراء كل نائبة آداب غائبة، 27 أغسطس 2020،