منذ بداية زواجي وأنا وصديقات لي كنا نتمنى أن يكون أبناؤنا من حفاظ كتاب الله، تقريبًا أغلبهن قد حقق الله لهن أمانيهن، فقد كانت حياتهم شبه مستقرة إذ مكثوا في أماكنهم عشرات السنوات، وهذا الاستقرار قد منحهم فرص السير على نهج واحد، أما أنا فقد انتقلت بين أمكنة ومدن وبلاد عدة؛ ولذا لم أستطيع أن أسير على وتيرة واحدة في تربية أبنائي، والاعتماد على منهجية واحدة في طريقة تربيتهم؛ فقد أحضرنا لهم معلمًا يعلمهم القراءة والكتابة وحفظ القرآن، ثم انتقلنا إلى مكان آخر و استجلبنا لهم شيخًا وكان متميزًا معهم في تحفيظهم القرآن، وكانت الثمرة واضحة إذ كانوا يحفظون ربعًا في الحصة الواحدة، ولكن سرعان ما انتقلنا إلى مكان آخر واستعنا بشيخ آخر ولكنه قام بتدليل الأولاد ولم يحفظوا معه إلا القليل القليل، وسارت بنا الحياة معهم على هذا المنوال حتى كبروا الآن ولم يتجاوزوا فيما حفظوا من كتاب الله السبعة أجزاء، وبعضهم تفلت منه ما حفظ لأنه لم يتعهده، وهذا بالنسبة للكبار، الآن لدي طفل صغير في المرحلة الابتدائية وأتمنى أن يحقق الله لي أمنيتي فيه ويحفظ كتاب الله، فبماذا تنصحونني كي يتحقق لي ذلك؟
السائلة الكريمة:
بارك الله لك حرصك على تنشئة أبنائك على حفظ كتاب الله، وتقبل جهدك المبذول وأقر عينك بما تحبين.
لا داعي لكلمات مثل: أشعر بخيبة الأمل، وغيرها من العبارات المحبطة، فما دمتِ بذلتِ؛ فهذا رزق أبنائك حتى الآن، وما زال في الوقت متسع لبذل مزيد من الجهد في تحقيق ما تتمنين وزيادة بإذن الله.
وبقدر ما يحدث التنافس في الخيرات من تجديد للهمم والعزائم، إلا أننا كثيرًا ما نشعر بالإحباط إذا لم ندرك أن لكل تجربة ظروفها الخاصة مهما تقاطعت وتشابهت النوايا، فأصدقائك الذين وفقوا ويسر الله لهم أن يختم أبنائهم حفظ القرآن، بالتأكيد لديهم ظروف ودعائم يسرت لهم ختم كتاب الله حفظًا، وربما توفرت نفس الظروف لغيرهم ولم يتموا الحفظ، وربما حفظ آخرون في ظروف قاسية أو أقل توفيرًا لمقومات الحفظ، نقصد أمرين مما سبق:
- التنافس في الخيرات و مقارنتنا بالآخر أمر طيب وجميل وأحيانًا يكون مطلوبًا طالما ساعدنا ذلك على المضي قدمًا في تحقيق الهدف المرجو وطالما لم يؤد إلى الإحباط: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ}.
- الأمر الثاني ونحن نقارن يجب أن نراعي مسألة الفروق الفردية بين أبناء الأسرة الواحدة ناهيكِ عن الفروق بين ظروف كل أسرة عن غيرها.
فالمتأمل لمسألة الفروق الفردية يعرف أنه لا داعي للمقارنة لأنها لن تكون أبدًا عادلة، الأفضل منها أن نبحث عن المعوقات لنتلافاها في تجربتك مع صغيرك، ولنا في مسألة حفظ القرآن كهدف في حد ذاته وجهة نظر، فهو هدف غير كاف، أو هدف قد يؤدي بالأهل إلى وسائل خاطئة أو ضاغطة!
الأفضل أن يكون هدفنا هو: (تعلق أبنائنا بالقرآن كمرجع ومنهج حياة) وسيأتي الحفظ ضمنًا، مراجعتنا للهدف، تعين على تصحيح وتعديل المسار، فالتركيز على حفظه فقط مع طفل ليس عنده ملكة الحفظ مثلًا، حتمًا ستوقعنا في مشكلات مع الأبناء، وقد ينفرون من جلسة القرآن بالكلية، بينما إذا كان الهدف الارتباط بالقرآن من خلال فهمه وتفسير الآيات، وتأمل قصصه، سيجعل مسألة الحفظ تأتي تباعًا ويكون الحفظ حينها بحب و برغبة حقيقية، إذًا ما يمكنك فعله مع الصغير:
- تغيير الهدف من الحفظ إلى الارتباط بالقرآن وأهل القرآن.
- الديمومة.
وهي كلمة السر، فمهما تنقلتم، فالقرآن وحلقات القرآن لا تتوقف، فقد تيسرت بفضل الله على جميع الأصعدة، وفي أعتى بلاد الكفر شيدت المساجد ودور الحفظ، وإن لم يكن هذا ولا ذاك، فقد انتشر بفضل الله التعلم عبر الإنترنت، فلا سبب حقيقي للتوقف، تيسر الحفظ في هذه الآونة كما لم يتيسر من قبل!
- التثبيت: تثبيت الوقت وطريقة الحفظ وكميته، وتثبيت الشيخ ما أمكن.
- مشاركة الأبناء وضع الهدف: فحينما نشارك الأبناء أحلامنا وأهدافنا و يضعوهنا معنا يصبح المحفز داخليًا، الأمر يختلف تمامًا عن إذا ما وضعنا الهدف في مخيلتنا- نحن الأهل- ولم نشارك الأبناء، فالمشاركة تجعلهم ينطلقون معنا من أرضية مشتركة.
يحتاج الأبناء أن نوضح لهم الهدف من التعلق بالقرآن وفهمه وحفظه، اطلبي من صغيرك وساعديه في البحث عن أحاديث توضح مكانة حافظ القرآن و ليحفظها ويكتبها ويعلقها أمامه، فعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “إنَّ للهِ أهلين من النَّاسِ قالوا من هم يا رسولَ اللهِ قال أهلُ القرآنِ هم أهلُ اللهِ وخاصَّتُه”.
وعن عبدالله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “يُقال لصاحب القرآن: اقرَأ وارقَ ورتِّلْ، كما كنت ترتِّل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرَأ بها”، ناقشيه في معان الأحاديث حتى تتشبع روحه منها ويجد العزم في نفسه لأن يكون من أهل الله وخاصته، ناقشيه بأن يتخيل أكثر ما يحب في الدنيا، كيف له أن يحصل عليه؟ سيحتاج إلى جمع المال، وبذل جهد طويل وقد يصل في النهاية إلى ما يريد وقد لا يصل! فكيف لو كان ما يريد الجنة؟! كيف له أن يحصل على مراده؟!
الترقي في الجنان يستوي فيه الغني والفقير، لا حاجة لجمع المال، يفوز به حافظ القرآن، فيفوز بملذات حقيقية، لا تقارن بملذات الدنيا أبدًا!
اسأليه :أي منزلة يحب أن يكون فيها، لو في أمر من أمور الدنيا سنختار أفضل الإمكانات، فهل نزهد في مكانتنا في الجنان؟!
- ولا ننسى أن نبارك خطواته الصغيرة ونشجعه، فالأطفال يحتاجون إلى التحفيز الخارجي، نخطئ أحيانا حينما نؤخر التحفيز من أجل انتظار إنجازٍ أكبر فتضعف همم الأبناء و يفقدون البوصلة، فنحتفل به كلما ختم سورة، وكلما ختم جزءًا، وكلما ترقى وأنجز.
- ولا ننسى أن نكون نحن الأهل قدوة لأبنائنا في الإقبال على الطاعة قبل أن نأمرهم، فلسان الحال أبلغ ألف مرة من لسان المقال.
- ولا نمل الدعاء لهم، أن يصنعهم الله على عينه، ويحبب إليهم الإيمان، ويزينه في قلوبهم.
أعانك الله على تربية ولدك كما يحب ربنا ويرضى، ويسر لنا جميعًا حفظ كتابه والعمل بمحكم آياته، وأقر عيوننا بصلاح أبنائنا جميعًا، سبحانه هو ولي ذلك والقادر عليه.